المحنة الممكنة لدولة آل البيت.
منتدى معد كرب القومي
مروان الغفوري
كانت الستينات حرباً مع "آل البيت" في الشمال، ومع الإنجليز في الجنوب. عقد السبعينات شهد حروب المنتصرين/ الرفاق ضد بعضهم في الشمال والجنوب. في الثمانينات بلغت حروب الرفاق مستوى مدمراً في الجنوب، ودخل الشمال في حروب "الجبهة"، وانتهت الحربان إلى استقرار سياسي هش على جانبي الحدود. اتحد النظامان السياسيان على نحو ترك كل أسباب الحرب قائمة، ودخل اليمن الموحد في حرب كبيرة انتهت إلى انهيار الديموقراطية الجنينية، وتراجع حاد في تأييد الوحدة في الأراضي الجنوبية. تراكم الاستياء الشعبي، واستغل آل البيت عزلة صالح فاخترقوا نظامه من جهة، وبدأوا بتأسيس خلاياهم العسكرية من جهة ثانية [تأسس الشباب المؤمن بعد حرب الشمال – الجنوب، وكان أكثر من فعل ثقافي]. على أن الثمانينات كانت قد شهدت حرباً مكتومة بين السلفيين وآل البيت، وتدخل النظام آنذاك لاحتواء الصراع، وثمة وثيقة صلح وقع عليه الشيخ الوادعي من جهة، واربعة وعشرون شخصاً من آل البيت من جهة أخرى [هم آباء قادة الحركة الهاشمية الآن: الحوثي، العجري، فليتة، إلخ]. آل كل ذلك إلى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين الذي شهد ستة حروب مع آل البيت، وحروب شتى مع تنظيم القاعدة، تلطيخ مدمر لسمعة اليمن على الصعيد الدولي. فشل النظام في حروبه مع تلك، فضلاً عن تضاؤله أمام احتياجات الأجيال الجديدة، أدى إلى ثورة حتمية. أدت الثورة العامة إلى تفكيك النظام المريض، ومن خلال الفراغات والثقوب المفتوحة خاض آل البيت حروبهم المظفرة وسيطروا العاصمة. فتحت حروب آل البيت الباب الواسع لحرب هجينة، حروب بالوكالة، وحروب داخل الحروب، وانتهت باليمن إلى طور ممتد من التفكك العظيم.
لم يعد ممكناً إنقاذ اليمن وإعادته جغرافيا إلى صباح الثامن من يوليو 1994: أرض مترامية الأطراف تحكمها سلطة مركزية واحدة. سيمضي وقت قبل أن يشاهد اليمنيون الحقائق الجديدة، لنقل: الحقائق النهائية، لحروب الستين عاما. ليس مستغرباً انهيار اليمن إلى دويلاته الراهنة، الأكثر غرابة كيف حافظ بلد صغير ومتنوع على هوية موحدة ومتجانسة طيلة ستة عقود من الحرب. تلك الهوية التي احتملت عقوداً من الحرب انهارت أخيراً، ليس في الخنادق والجبهات، بل على كل الأصعدة. على سبيل المثال: يوجد في ألمانيا ثلاث جاليات يمنية: آل البيت، الجنوب العربي، وجالية ثالثة تقول إنها لليمنيين كلهم. هذا التفكك التلقائي يجري بسلاسة وبلا خطاب عال، يجري لدى طبقة نالت تعليماً عالياً في وسط أوروبا.
استحكم نظام فاشي في شمال اليمن ووسطه، ينتمي الحكم إلى منظومة إيديولوجية عابرة للحدود، ذات طبيعة عسكرية متجانسة ويمكن وصفها بقليل من التحفظ بالمركزية. قاتلت المنظومة معاً في أكثر من دولة، وهي في اليمن أكثر تعبيراً. يملك نظام صنعاء، داخل هذه الشروط، القدرة على البقاء لوقت طويل ما بقيت المنظومة الإيديولوجية قائمة [العالم الشيعي، بالمعنى الإيديولوجي العسكري]. تصدُّع المركز، في طهران، قد يؤدي إلى تفكك شبكتها الإيديولوجية، بيد أن هذا الاحتمال يبدو مستبعداً بعض الشيء بالنظر إلى ما بات يتأسس حديثاً على المسرح الدولي: عودة تدريجية إلى الحمائية، تراجع سريع في العولمة، خروج متسارع لدول ومجتمعات من حزام الديموقراطيات، سباق تسلح انتحاري، انقسام العالم رأسياً إلى غرب وشرق، استقطاب محموم للدول والكيانات، وصراع ثقافي محتدم بين خطابين. هذا التحول العالمي خلق فسحة جديدة للنظام الإيراني ليعيد بناء استراتيجيته مزوداً بواحدة من أهم أدوات الصراع الراهن: الطاقة. سرعان ما حول آل البيت الحدود العسكرية إلى حدود عقائدية، وضعوا عليها تشكيلات عسكرية مهندسة دينياً بحيث تبدو شديدة التمايز عن المقاتلين على الطرف الآخر. يسارع آل البيت إلى خلق سكّان جدد، وإعادة برمجة السكّان السابقين كي يصلوا إلى "الشعب المتجانس" الذي تفاخر به بشّار الأسد وهو يتحدث عن الجانب الإيجابي للحرب. التربية الثقافية تأخذ مكاناً مركزياً في استراتيجية تأسيس دولة آل البيت، وقد سخر عبد الملك الحوثي في خطابه الجديد من المنادين بتوفير الرواتب، قال إنهم ساذجون ولا يفهمون طبيعة المعركة وأولياتها. لا يقل إنفاق آل البيت على البنية العسكرية عن إنفاهم على الإصلاح الثقافي، أي: هندسة شعبهم عقائدياً على نحو جذري. إذا تمكّن آل البيت من هندسة 20 % من السكّان فإن ذلك كاف للحصول على استقرار سياسي على المدى الطويل. السكان المهندسون إيديولوجيا هم احتياطي عسكري لكل نظام فاشي، وعشرون في المائة تكفي للقول إن آل البيت لم يعودوا جالية.
تنتهي حدود آل البيت هناك حيث تتعثر معاركهم العسكرية، وهم على أهبة الاستعداد لحرب مستدامة، فهي لا تكلفهم كثيراً من جهة [يعسكرون السكّان، ولديهم مصادر مجانية للسلاح]، فضلاً عن حصر سلطتهم داخل سلسلة جبلية عديمة الموارد [باستثناء الحديدة] هو مصدر قلق مستدام بالنسبة لهم.
الجباية الرهيبة التي يتحصلون عليها هي مصدر دخل نظام آل البيت الرئيسي، وهذا المصدر يتهدده الخطر فيما لو استطاعت الدولة اليمنية المجاورة أن تؤسس لوضع قانوني وأمني مستقر. وضع مثالي كهذا سيغري رأس المال الكبير والمتوسط على نقل استثماره من أراضي آل البيت. ثمة مشاكل بنيوية عميقة في دولة آل البيت، وستصير تلك المشاكل أكثر عمقاً فيما لو آلت الهدنة إلى سلام مستدام، أو لو يئسوا من الحرب. اليمن الآخر، اليمن الواقع خارج آل البيت، يمر بمحنة رهيبة بمقدوره تجاوزها. لا تملك السعودية تصوراً استراتيجياً للشكل الأفضل لليمن، وكلما اقترحت مشروعاً نأت عنه بنفسها. يشبه الأمر انتظار توم هانكس لشهور طويلة، وكلما سأل "متى سيأتي الملك السعودي لنعرض عليه المشروع" يقال له غدا [فيلم: هولوغرام إلى الملك، 2016].
تمايزت الكوريتان، وهذا مجرد مثال، عن بعضهما شيئاً فشيئاً إلى أن تخلقت دولتان: فاشية تملك الصواريخ ولا يتجاوز اقتصادها السنوي 15 مليار دولار، وديموقراطية ليبرالية تملك الصحف ويناهز اقتصادها السنوي التريليون ونصف التريليون دولار في العام. مع الأيام تكتشف الأنظمة الفاشية إن معركتها الوجودية داخل أراضيها، وتذهب إلى صناعة السجون والأقفال، هذا اللون من الحياة يخلق دولا مهمتها إضحاك باقي العالم حتى وهي تهدده بالصواريخ. ما كانت كوريا الشمالية لتبدو على ذلك النحو المحزن، ولما ضحك الناس عندما عرفوا إن تلفزيونهم الوحيد بث نبأ عن تأهل منتخبهم إلى نهائي كأس العالم بعد تغلبه على أميركا، ما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن كوريا الجنوبية بنموذجها الإبداعي الفريد قد ضربت مثالاً. يذهب باحثون مرموقون، مثل بول كروغمان الحاصل على نوبل، إلى القول إن كوريا الجنوبية واليابان اللتين وقعتا داخل المجال الحيوي السوفيتي هما من جعلتا السردية السوفيتية حول القوة والرفاة تبدو حمقاء وهزيلة. وعلى نحو عام فلا يمكن لدولة آل البيت أن تثير السخرية والغضب ما لم تضرب المدن الأخرى أمثلة. حفلة تخرج، ندوة ثقافية، شارع نظيف، صحيفة علمية، قاض جيّد، .. أمور بسيطة بالطبع، غير أنها ستضع آل البيت في محنة عويصة.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال