تفاصيل المقال

اليمن ... المجتمع الرهينة !

اليمن ... المجتمع الرهينة !

مصطفى محمود

مصطفى محمود

 

ليس للرهينة إلا أن تؤجل كينونتها وتظل أسيرةً لفعلٍ مخططٍ لها سلفاً. قد تفكر وتنفعل وتحتج وتتمنى وتريد وتحلم، لكنها تظل تابعةً في سلوكها، عن وعي أو لا وعي، عن قصد أو قسر، طويلاً أو قصيراً، لإرادة خاطفها أو محتجزها أو حارسها أو سجانها أو قاتلها. وللرهينة جسد أخرس فاقد لزمنه الخاص، لأن حركته ومعناه وقيمته غدتْ مفاهيم محنطة في تابوت إسمه "الحدث" يصنعه الآخر الذي هو ليس رهينة.

 

مفهوم "الارتهان" يتجاذبه قطبان مختلفان، أحدهما فلسفي والآخر اجتماعي. ففلسفياً كلنا رهائن لأحداث وظواهر تتموضع قبلنا وحتى بعدنا في الزمان والمكان. ألسنا أصداءً تريد الاستقلال عن أصوات سبقتها أو أعقبتها؟ أليس الوجودُ سجنَنا الحيوي الذي ترقص فيه حرياتنا؟ أما اجتماعياً، فالبشر أفراداً كانوا أم مجتمعات، يسلكون بطريقتين: إما "رهائن" تابعون، أو "خاطفون" صانعون للمصائر.

 

يوصف المجتمع اليمني بالمجتمع المأزوم والمُحبَط والمُستَلَب، متعدد المشاريع والولاءات المضادة للوطن اليمني.. وكلها توصيفات ذات دلالات تحليلية وتفسيرية مفيدة. إلا أن الوقائع السياسية المتراكمة في اليمن منذ عقود، تستلزم مزج تلك التوصيفات في دائرة مفاهيمية أدق تغطي مساحة أشمل من الأداء السلوكي الاجتماعي للفرد اليمني ، لتجعل منه مزيجاً من كل ذلك، مضافاً له واقع اختطاف ذلك الفرد أو احتجازه خارج ذاته الاجتماعية التي يتمناها؛ إنه "المجتمع الرهينة" على مدى نصف قرن مضى، وما يزال كذلك إلى حين!

 

العوامل الموضوعية التي ارتهنت اليمنيين في مصائرهم، باتت بديهيات يعرفها الجميع، أولها الحروب والاستبداد وسلطات الامر الواقع والفساد السياسي والتطرف الديني الدموي والتهجير والمشاريع المضاده للوطن ( السلالي الطائفي والمناطقي والعائلي والحزبي وسادية بعض دول التحالف العربي ، وليس آخرها الفقر والحرمان والبطالة والفساد والسلاح ونهب المال العام واللامعيارية المجتمعية والفوضى العامه منها الفوضى المرورية ومتاريس القمامة وانهيار الخدمات ومحاصرة الجمال بحراب "المشاريع " الرثة. ولذلك سيقتصر تحليلنا الحالي على المستوى النفسي الذاتي لحالة الارتهان هذه، إذ أن إطلالة سريعة وشاملة على السلوك السياسي لليمنيين اليوم، يمكن أن تكشف عن أبرز ملامح "سيكولوجية الرهينة" التي تماهوا بها، والتي قد تقدم إجابات عن السؤال المجتمعي الواسع الانتشار: ((لماذا نحن اليمنيون ضد وطننا سلبيون وخانعون إلى هذا الحد؟ نعرف ان سلطات الامر الواقع الحاليه هي سبب مأساتنا واسبابها، ومع ذلك نناصرها لانتحرك جمعياً لوقفها أو على الأقل نرقض دعمها !)).ونعمل لصالح الوطن وبناء الدوله. 

 

فالفرد اليمني اليوم تفكيره أزماتي البنية، يرى في تلشرعيه واستعادةبناء الدوله الوطنيه وهماً وفي الوهم حريةً. يشعر بعجزه عن المشاركة السياسية الفاعلة في أحداث بلاده. لا يستطيع أن يغادر عقدة كونه "رهينة" لقوى كاسحة حتى في حال الغياب الموضوعي لسلطات الام، الواقع . إنه يبحث عن خاطف له من خا، ج البلاد يلوذ به، ويتصرف لاشعورياً كما لو إن قوة غير إرادته تحدد له مساراته. يفتش عن سلطة مليشتاويه يُخضِعُ نفسه لها لتخطف عقله وقراره حتى لو كانت سلطة مُتَخَيّلة لا وجود لها إلا في إدراكاته الذاتية الخاطئة. وحتى حينما يغادر اليمني بلاده مهاجراً أو مهجراً أو زائراً أو سائحاً أو دارساً، او مغتربا يظل أميناً لكونه رهينةً لشيء ما في تلك الأصقاع البعيدة التي نظمت أنساقها الاجتماعية على أساس التحرر من هاجس "الخاطف" أو "السجان".

 

تحيلنا هذه الرؤية إلى حقيقةٍ أشد اختزالاً ووضوحاً في الشخصية اليمنيه : نزعتها الماسوشية لاستعذاب الألم عبر طقوس القضاء والقدر التكفير عن الذنوب فردياً وجمعياً، ولتوجيه اللوم إلى الذات الاخر اي ان كل ( مجتمع خاضع سيطرة سلطه امرواقع مؤمن ان هذه السلطه تحميه من مجتمع السلطات الاخرى) او لوم الذات(نحن اليمنيون لسنا اوادم) لتسويغ المظالم وإسباغ العدل عليها ما دامت "غير قابلة" للرد والمواجهة.

 

 فالضحية هي "المذنبة" لأنها لم تتخذ ما يكفي من الاحتياطات لتمنع جلادها من أن يصبح جلاداً! وبتحديد أكثر: اليمني يعرف الحرية عقلياً لكنه يريد أن يظل سلوكياً رهينةً لقوة ما تعفيه من مسؤولية وجسامة المبادرة الذاتية لمواجهة وجود اجتماعي مكتظ بالأزمات والحرمانات اعتاد أن يتحاشاه خضوعاً وخوفاً من قسوة قوى متنفذة تنيب عنه في كل مرة. فهناك دوماً من كان يفكر عنا نحن اليمنيين ، ويقرر عنا، ويوقع بأسمائنا بدلاً منا: الاحزاب والمكونات المناطقيه والمشائخ والساده الهاشميين والاحزاب ثم المتأسلمون سياسياً وأدعياء الوصاية الالهية على عقول الناس.

 

نجحت سلطة الامر الواقع (الحوثي الانتقالي حزب الاصلاح طارق عفاش)خلال سلطة الرئيس هادي في ترويض اليمنيين ، لأن هذه السلطات نجحت في زرع فوبيا الرقيب الداخلي في ذواتهم الجريحة، وسلبتهم اعتقادهم بفاعليتهم، فجعلت من الجميع رهائنَ لإملاءات وشكوك نفسية داخلية أكثر من كونهم رهائن لخاطفين حقيقيين. فكم من مرة كان الخاطف يغفو باطمئنان تاركاً الباب مفتوحاً لرهينته بعد أن جعلها تتوهم أن كل الأبواب المفتوحة موصدةٌ أو أن فرارها مصيره الفشل والعقاب الحتميينِ آخر المطاف، فصارت الرهينةَ والحارسَ معاً!

 

وبعد تشكيل مجلس القياده الرئاسي 2022 ربما اكتشف الرئيس العليمي ان الوقت تاخر حتى فالطريق قد بات سالكاً لسلطات الامر الواقع.ليواصلوا الاستفادةَ من ستراتيجية "المجتمع الرهينة" وترجمتها إلى أصوات وبنادق مؤيدة لهم "طوعاً" في الخنادق واىمتارس.ضد استعادة الوطن تلمحطم وبناء الدوله فأصبح الرقيب الداخلي هذه المرة يستمد طاقته وديمومته ليس من سطوة سلطات الامر الواقع ا أو قاداتها الذين أقنعوا الجميع بأنهم قد بثوا أبصارهم ومسامعهم حتى في جدران غرف النوم، بل من قدسية سلطة اللاهوت التي "لن تغفر" حتى حياد المواطن في نطاق سيطرتها، بعد أن جرى ترجمة هذه السلطة إجرائياً إلى قوائم وأسماء ورموز تلعب دور "القائد المقدس" او المعظم الذي يعمل لتحقيق مشروعه الغير وطني 

 

ولذلك لا عجب أبداً أننا رأينا تصرفات المجلس الانتقال اليوم وبالامس كلما ضعف الحوثي. يقوم الانتقالي بممارسات ضد قيادة الدوله الشرعيه بغرض تخفيف الضغط عن الحوثي. ومثلما المواطن الجنوبي رهينة لدى المجلس الانتقالي فألاخير نفسه قياداته السياسيه وتلعسكريه وعوائلهم رهائن لدى دوله الامارات المرتهنه هي الاخرى للسياسه الامريكيه... المشكله الحاليه ان الرهينة اليمنيه لم تغادر عقلها ولا بصيرتها، لكنها عاجزة بعد أن تستعيد فردانيتها السلوكية، إذ ما تزال تديم ارتهانها بنفسها مستغرقةً في سيكولوجية التسليم لسلطة الآخر النائب عنها، بوصفه "المؤهل" للتحكم بمصيرها سواء في الدنيا أو في ما بعد الحياة.

 

إن الخروج إلى فضاء الحرية النفسية الشاملة لا بد أن يأتي معمداً بآلام الخروج من ظلمة الرحم الآمن في محدوديته إلى ضياء العالم اللانهائي في احتمالاته وقضاياه وتحدياته. تدلنا التجارب البشرية عبر التأريخ أن تحول الوعي بالحرية إلى سلوك حر فعلي ليس أمراً بسيطاً أو حتمياً أو مباشراً، إذ تبقى المسافة الاجتماعية بين المعتقد والفعل مكتظة بعدد لا يحصى من متغيرات التأجيل والكف والإحباط. لكن إدراك الرهينة لعبوديتها، ووعيها برذائل خاطفها، يمثلان الخطوة الأولى الضرورية لانتصارها النفسي القادم على تفكيرها الأزماتي. إن فعل الحرية هو أعقد أنواع السلوك البشري قاطبةً، لأن درب التحرر الداخلي العميق يتطلب أولاً التخلص من اي أوهام صنعها التأريخ الاجتماعي للإنسان، أوهامٍ ترتدي لباس الحرية لكنها تمارس دور السجان نحو معتنقيها.

 

ولأن التأريخ النوعي للبشرية كان على الدوام يصنعه هذا الصنف من الوعي الاجتماعي المعارض لواقعي العبودية والظلم، فإن السنوات القادمة في اليمن ستشهد تناقصاً مؤكداً في أعداد الملاييين الخاضعة لسيكولوجية التسليم، لصالح ظهور ملايين أخرى ستكتشف تدريجياً وبالتجربة الملموسة بطلانَ ولا أحقية فكرة "الرهينة". إن مصدر هذا التفاؤل هو امتلاك الشخصية اليمنيه لخصائص متحدية أخرى يمكن أن توازنَ تقمصها الحالي لدور الرهينة، من بينها نزعتها الحضاريه المجتمعية، وانفتاحها على الخبرات الحياتية المستجدة، وقدرتها على التكيف الايجابي، وميولها العدالوية، ونظرتها البراجماتية لشؤون الدين والدنيا، ونزعتها للتشكيك بالحاكم.

 

السوسيولوجيا في اليمن كانت على الدوام أكثر تريثاً وأشد تأصيلاً من حصان السياسة الجامح. ولذا، يتوهم من يعتقد إنه أصبح يمثل هذا المجتمع حقاً لأنه يمثل مطلبه السلالي او الطائفي او المناطقي او العائلي او الحزبي ولديه سند اقليمي او دولي إن هذا النوع من السياسيين "الخاطفين" عليه منذ الآن أن يتشاءم وأن يترك التفاؤل لمثقفي التنوير الفاقدين لغريزة السلطة والمالكين لدافع الإصلاح. فالحراك السياسي الموضوعي بات يتفاعل هناك.. في أعماق شخصية الفرد اليمني ، حيث تقبع تلك الرهينة التي بدأت تطرح أسئلة التشكيك بكل شيء... أسئلة الحرية!..

التعليقات 0:

تعليقك على المقال