أن تركب ظهر النمر. عليّ ابن أبي طالب وأوهامه
منتدى معد كرب القومي
حين علم علي بن أبي طالب بأن عائشة وجيشها قد بلغا البصرة، يتعقبان المتمردين الذين قتلوا الحاكم، دعا إلى النفير العام في المدينة المنورة فاستجاب له أربعة من كبار الصحابة، ويقال ثلاثة [انظر: الشعبي، والطبري]. هذه الصدمة المبكّرة ستفقده الإحساس بالأمن وستدفعه إلى أحضان قطاع الطرق، كما سنبين أدناه، وتجعل منه أول زعيم للمرتزقة في التاريخ الإسلامي. سيجد عليّ النجدة من مكان آخر: قتلة عثمان، ومن المتمردّين الذين سيتركونه بعد عامين ويصيرون الخوارج. كان يتحرك على موج من الناس يقتل بعضهم بعضاً، كما لو أنه ملك للجحيم.
قال عن نفسه، كما يروي الحاكم على شرط الشيخين "قلتُ اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى"، ومات مقتولاً مثل سائر من قتلوا الرجل. كان عليّ يعرف جريمته، وكان ابنه الحسن قد نصحه بأن يترك المدينة إن كان لن يحمي الخليفة،على الأقل كي لا تتجه أصابع الإتهام إليه وتدمر مستقبله السياسي. يُعرف عن الحسن التأني وشيء من الحكمة، بخلاف سائر بني هاشم. وهو يمشي بمحاذاة والده في طريقهما لقتال جيش عائشة، سارره: "لقد نهيتك فعصيتني، تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك فيها" [ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع]. يزجره والده بغرور "لا تزال تحنّ عليّ حنين الجارية".
وهو يترك المدينة خلف ظهره، أو وهي تدير له ظهرها، اتخذ قرارين خطرين للغاية، على مرحلتين: المرحلة الأولى تعيين قثم بن العبّاس والياً على مكة، وتمّام بن العبّاس والياً على المدينة. فقد علي الثقة بنواتي الإمبراطورية الإسلامية فوضع عليهما ولدي عمّه، وهما غلامان ممن ولدوا بعد الهجرة، وكانا يفتقران إلى كل ما يحتاجانه لحكم قلب الإمبراطورية، عدا أنهما ابنا عم الحاكم. صدمت المدينة عليّاً كما صدمته مكة، ووجد نفسه وحيداً، يحمل على كاهله مشروعية ناقصة، وبيعة تسلّمها من اللصوص. وفي البصرة، في موقعة الجمل، أراد أن يحرج خصميه، فسأل طلحة: ألم تبايعني؟ فقال الرجل: نعم، والسيف على عنقي. كان ذلك سيف الأشتر ورجاله، ممن نصبوا عليّاً ملكاً. تعيين ابني العبّاس حاكمين على قلب الدولة أغضب قتلة عثمان، فرأى عليّ أن يراضيهم على مستويات أخرى، وذهب يقتسم معهم الأمصار: مصرٌ لبني هاشم، ومصرٌ للقتلة. كان يمتطي ظهورهم، وكانوا يركبون على كتفيه، استمرأ اللعبة وأحاطت به خطيئته.
وكما تنبأ له ابنه: سيُقتل بمضيعة لا ناصر له فيها.
في المرحلة الثانية، وبعد فراغه من معركة الجمل، اتخذ قراراً أخطر من سابقه:
معاقبة المدينة ومكّة. لقد أعلن نقل عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى الكوفة، وهي مكان بلا هوية ولا تاريخ.
كانت الكوفة أرضاً بلا ملامح، أسسها عمر بن الخطاب وقائده سعد بن أبي وقّاص لتكون معسكراً استراتيجياً على حدود المشرق الأقصى. في المراسلات التي دارت بين عمر وسعد كان الأول حريصاً على أن لا تصبح عُمراناً، وأن لا تتجاوز وظيفتها كمنطقة عسكرية. لم يسمح عُمر بأن تبنى فيها منازل من الطين إلا بعد أن أبلغه القائد أن حريقاً التهم بيوت القصب، فحدد الخليفة عدد البيوت المسموح ببنائها: ثلاثين. بالنسبة للمؤسس: لا بد أن تحتفظ بصفتها كمعسكر. والكوفة تعني، في أبرز معانيها، المكان الذي ينزل فيه الجند ويجتمعون. يقول المؤرخون إن الكوفة لم تشهد بيوت الآجر سوى في الحقبة الأموية. ما الذي جعل عليّاً يتخذ هذا القرار المزلزل، متخليّا عن "مدينة الرسول" وجارتها "أم القرى"؟ للمدينتين حضورها الديني المهيب في الجزيرة، وفيهما يعيش العقل الإسلامي المحض، وإذا سمحنا للإمام مالك بأن يصف القيمة المعنوية للمدينة فسيقول: هُنا دُفن عشرة آلاف من أصحاب النبي. ما الذي فعله علي؟ جرياً وراء سراب الحكم أخذ الإمبراطورية الإسلامية إلى جُحر المرتزقة.
في عشرينيات القرن الهجري الأول توزّع الجند على أرض الكوفة بحسب بلدانهم، وتوزعت حوالي 12 قبيلة يمنية على 12 مطرح، وكانوا أغلبية. كل قبيلة أقامت لها مسجداً، وكانوا رجالاً بلا نساء. وعندما انتقل الحكم من عمر إلى عثمان صارت الكوفة إلى بؤرة توتر. فهي أرض المقاتلة، وستصير أرضاً للفوضى، ومنها ستخرج موجات العصيان والتمرّد من الخوارج وحتى القرامطة، وغيرهم. إنها، بامتياز، أرض النمر.
حين التقى عليّ وعائشة، ودارت رحى الحرب بينهما، أدرك عليّ ورطته. فهو وإن تسمى بالخليفة إلا أنه، مقارنة بسابقيه، يحظى بأدنى قدر من الإجماع، وعلى كاهله دم خليفته. ولولا المقاتلون الذين هبوا لنجدته من الكوفة لكان قد خسر المعركة. فلم يكن في جيشه من المدينة سوى بضع مئات من الرجال [بخلاف الصحابة الأربعة]، و12 ألف مقاتل كوفي [ابن قتيبة، الإمامة والسياسة]. على النقيض منه كان جيش عائشة خليطاً من المكيين والمدنيين. أما نواة المقاتلين الذين خاضوا معركته ضد "السيدة الأولى" فكانوا من قتلة عثمان، المتمردّين الذين احتلوا المدينة وأخضعوها قادمين من الكوفة. وفريق آخر قاتل إلى جانبه بضراوة، الفريق الذي سيُسمى الخوارج. لم يكن جيشاً بالمعنى العملي، كان لفيفاً واسعاً من شذاذ الأفّاق. وهو يرى بلاءهم إلى جانبه خاطبهم قائلاً "يا أهل الكوفة، أنتم أعواني على الحق، بكم أضرب المدبر" [ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/240]. وكان المُدبر، في تقدير علي، هو دائماً خصم مسلم. انحصرت معركة الرجل، كما تصفها كتب شيعته، في حرب الجهات الثلاث: الناكثين، القاسطين، المارقين. أي: أولئك الذين لم يقبلوا سرقته للرئاسته، ويرون أنه من العار أن يعلنه نفسه خليفة وكبار القوم يتدارسون مسألة قتل الخليفة ويحاولون التوصل إلى صيغة سياسية تملأ الفراغ الناشئ.
سيمضي علي في تلاعبه بالإرهاب والتمرّد ظنّا أن تلك السيوف ستمنحه عرش الإمبراطورية.
عند نقطة معينة توقفت معركة الجمل، فأصيب المقاتلون الكوفيون بإحباط، وتشكلت بذرة تمرّد داخل جيش علي، وأخذت تتسع. عاتبه مناصروه لأنه لم يسمح له بسبي عائشة ومن معها، ولأنه لم يمض في المعركة حتى الأخير. كانت حرباً ضنّت عليهم بالفيء، المحرك الأعظم لمقاتلة الكوفة.
كان عليّ يعلم تمام العلم أنه لا يملك جيشاً وإنما يركب ظهر النمر. ولكي لا تنفجر القنبلة في منزله فقد أخذ جيشه وذهب لقتال معاوية، 37 للهجرة، مؤملاً أن تمنحه تلك الحرب ما ضنّت به معركة الجمل: السلب للرجال، والعرش له. سينتكس جيش المتمردين والقتلة وقطاع الطرق مجدداً وسيعود إلى الكوفة. في طريقه إلى الكوفة يضطرب الجيش، يتشاتم الجند، يتقاتلون، ثم يحدث شيء خطير. انشق حوالي 12 ألف مقاتلا من جيش علي وذهبوا إلى حرورواء، بالقرب من الكوفة، وسيطلق عليهم الحروروية أو الخوارج. رفضوا النتيجة التي آلت إليها الحرب، وأدركوا بحسهم الخاص إن دولة معاوية في طريقها إلى الاستقرار وأن عليّاً أضعف من أن يقودهم إلى المجد والنفوذ. وسيحولون تلك النوايا إلى نزال في العقيدة والدين، حول حاكمية الله والعدل، وهو نزال وهمي يخفي تطلعاتهم الجوهرية إلى النفوذ والسلطان.
عرف الخوارج منذ اليوم الأول بالإرهاب والتطرف، لكن الحقيقة أنهم كانوا الجيش الذي قاتل به علي في الجمل وصفّين، ولأجلهم نقل العاصمة إلى الكوفة. كان عليّ هو المؤسس العملي لجيش الخوارج، دربهم على القتال، وضرب بهم يمنة ويسرة، ونعتهم بأفضل النعوت، وانتمى إليهم. وعندما صارت مملكته أصغر من تُقسهم على فريقين، بني هاشم والمرتزقة، تخلوا عنه.
أزمة جديدة تحيط بالرجل الذي ترك مدينته راكضاً وراء وهم الإمبراطورية، وإزاءها ألقى خطابه الشهير متوسلاً بقاء المقاتلة الخوارج إلى جواره، قال لهم "لا نمنعكم الفيء ما دامت أياديكم إلى أيادينا" [تاريخ الطبري، ج. 5/64]. كان علي يعلم نوايا رجاله: الفيء. وقد وعدهم به لقاء أن يكملوا مشوارهم كرفاق سلاح. أرسل الوسطاء ووعدهم بحرب جديدة ضد معاوية، وأنه سيكون بمقدورهم أن يمارسوا هوايتهم في السلب والنهب، وأنه سيغض الطرف عن أفعالهم ما دامت سيوفهم إلى جوار سيفه، غير أنهم رفضوا عروضه الأخيرة.
حدثت حرب النهروان بين علي والمنشقين من جيشه، الخوارج. استطاع أن ينزل بهم هزيمة نكراء وهم الذين نصبوه ملكاً، حققوا له أمنيته حيال عثمان، حالوا دون هزيمته أمام جيش عائشة، ومنعوه من الجيش القادم من الشام. ركب عليّ ظهر النمر، وقتله أحد الذين استخدمهم لقتل أعدائه.
هنا مسألة لا يُحكى عنها كثيراً:
ما الذي حل بالكوفة بعد ذلك؟
عزل عليّ نفسه داخل تلك الأرض المخيفة، وأحاط نفسه بالقتلة والمهووسين. وهناك نشأت، تحت إشرافه، أول بؤرة للتوجيه المعنوي في التاريخ الإسلامي، أو ما سيسميها مالك بن أنس "أرض الضرب"، أي المكان الذي تضرب فيه الأحاديث وتزور فيه الأحكام، ويُفترى فيها على الإسلام [الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، الثعالبي].
بعد فشله العسكري راح علي يستخدم المؤلّفين والمزوّرين والإعلاميين من ذوي الصوت العالي، ويرسلهم إلى الإمصار مبشرين به. وهكذا صار سيفه "ذو الفقار" السيف الذي نزل به جبريل من السماء. سيسمح علي بالمزايدة أكثر، وسيُقال: هو السيف الذي جاء بهم آدم وكان مصنوعاً من ورق الشجر. وسيقول الكوفيون أكثر من ذلك: السيف الذي حمله نوح على سفينته. أحاط عليّ نفسه بالدجّالين بعد أن فشل القتلة واللصوص فيما وعدوه به، وتفرقوا عنه. تقافز بين الدجالين والمرتزقة، علّ أحد الفريقين يوصله إلى المجد والسلطان. سمح للمرتزقة بأن يقتلوا الخليفة ويعتدوا على زوجات النبي، وسمح للدجالين بأن يصرخوا في الناس، في معيته "صاح جبريل في السماء لا فتى إلا علي"، وبلغوا حد تأليه الرجل في حياته. كل ذلك لم يحُل دون أن يلاقي المتلاعب بالنار مصيراً متوقعاً: يُقتل بمضيعة من الأرض.
حوْل عاصمة علي بن أبي طالب، الكوفة، سيقول الإمام الزهري "يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود في العراق ذراعاً"، وسيتحفر فقهاء الإسلام كثيراً وهم يُرون الكوفة تحرّف شكل الدين كليّا تحت إشراف حاكمها كرّم الله وجهه. فالحديث يقفز من شبر إلى ذراع، أي يصير ضعفين، ما يعني أن "الدين" داخل في الفوضى الشاملة، وستكون العقيدة أولى الضحايا وسيلحق بها الفقه.
سيعود مالك بن أنس ليخوض حرباً لا هوادة فيه مع "دين" الكوفة، دين عاصمة علي بن أبي طالب: عاملوهم معاملة اليهود والنصارى.
كما ربّى عليّ الطفل محمد بن أبي بكر وجعل منه قاتلاً فإنه سيفعل شيئاً مماثلاً مع الكوفة المدينة. فقد جلب إليها شذاذ الأفّاق وعلمهم القتال والسلب والنهب.
وهكذا صار حالها كما يخبرنا شيخ أبي حنيفة، ربيعةُ الرأي، أو ربيعة بن أبي عبد الرحمن:
"رأيتُ قوماً حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، كأن النبي الذي أرسل إلينا ليس النبي الذي أرسل إليهم".
الصدمة التي تعرض لها عليّ في المدينة جعلته يلقي بنفسه في أحضان المرتزقة، ويقبل أن يكون قائداً لهم. وكلما تململوا عنه صعد على منبره وصاح "يا أهل الكوفة، أنتم سنام العرب"[المجلسي، بحار الأنوار].
بعد مقتل علي فقدت الكوفة مركزها الوهمي، وانتقلت العاصمة إلى مدن لها تاريخ. صحيح أن الكوفة شهدت فترة من النمو، على صعيد الفقه والأدب ، ولكن حقيقة أنها مدينة علي أبي طالب، وأن جسده مدفون فيها، كانت كفيلة بأنها تجعلها في حالة مستدامة من اللاستقرار على مر التاريخ.
سيمر بها الرحالة ابن جبير الأندلسي في القرن السادس الهجري وسيجدها كما ينبغي لمدينة علي أن تكون: الغامر منها أكثر من العامر.
وما من حاكم مسلم فكّر في أن ينقل عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى الكوفة سوى علي بن أبي طالب. إذ ظن الرجل أن بضعة آلاف من الشبّيحة في مدينة بلا تاريخ سيعيدون له حقّه الأهلي. وهكذا أحاطت به خطيئته.
يتبع ..
التعليقات 0:
تعليقك على المقال