الإنتاج المعرفي والأدبي للراحل مطهر الإرياني.. كنز هائل نفيس الثمن.
محمد صلاح
القيل محمد صلاح.
تتجلى أهمية وقيمة الإنتاج المعرفي الذي قدّمه راحل اليمن الكبير مطهر الإرياني، خلال ستة عقود، في سعيه الدائم لتعزيز ثقة الشعب اليمني بنفسه، والتغلّب على المصاعب، وقدرته على اجتياز العوائق، واستعادته لدوره الحضاري مجدداً.
ومثلما سعى من خلال كتابة التاريخ لإعادة اكتشاف اليمن، ومعالم عظمتها، فإنه من خلال استخدام اللغة العامية في قصائده وأشعاره التي يخاطب بها العامة والبسطاء من الفلاحين، وهم الغالبية العظمى من الشعب اليمني، يتعمّد لفت أنظارهم إلى مواطن قوّتهم، واستثارة هممهم، ونفخ روح الثقة بأنفسهم، وبقدراتهم، وأنهم كما تمكنوا في سالف الأيام من التغلّب على مصاعب البيئة التي حولهم، فإن بوسعهم أن يحققوا الانجازات كما فعل الأوائل من آبائهم، فيذكرهم بأن:
من يشيــد الســـدود
والطرق في النجود
والقلاع في الحيـود
والمدن في السهوب
كان في كل حين
بالحضارة قميـن
إن مضى باليقين
لاقتحام الخطوب
لقد أدرك راحلنا الكبير أهمية الثقافة الشعبية في تعزيز قيم الثورة اليمنية، فانطلق نحو الشعب ومخاطبته بلغته "إن المبشرين بعودة ظهور الملكية مرة أخرى لم يختفوا بعد، والمبشرين بعودة ميلاد دولة الجنوب العربي أو إمارات الجنوب العربي لم يختفوا بعد، والاعتقاد السائد بين هؤلاء وهؤلاء أنهم لا يحاربون في معركة خاسرة ما دام في العالم قوى للشر تسعى عن طريق التطلعات التوسعية إلى دعم الروح المعنوية والمعادية لبقايا الفلول الهاربة أو المتخفية. وليس كالثقافة، والثقافة الشعبية بصفة خاصة، وسيلة ناجعة لإلحاق الهزيمة الساحقة بهذا التجمع".[ د. عبد العزيز المقالح شعر العامية في اليمن صــ274]، ومن هنا سخر الإرياني كل قدراته لصالح بناء اليمن، ومحاربة الآفات الاجتماعية التي زرعتها عهود الضياع داخل المجتمع اليمني، وكانت قيم الحرب، واحتقار العمل إحدى الأولويات التي سعى الشاعر لمواجهتها.
محو ثقافة الحـرب
بسبب طبيعة الإمامة ومنظومتها التي تعلي من شأن السيف، وقيمها التي تمجّد الحرب، الأمر الذي عزز وساعد على استمرار الصراعات، التي ظل يشعلها المطالبون بالإمامة، وما يلحق ذلك من تجنيد للمجتمع، وتعبئته لخوض المعارك، خصوصاً، في بعض مناطق اليمن، فإن ذلك كان يدفع الناس نحو هجرة الأرض، وترك فلاحتها، والتحول إلى جنود ومقاتلين، من أجل الحصول على المنافع، فجاءت قصائد الإرياني تخاطب الإنسان اليمني بأن العمل في الأرض وزراعتها تقي من الفقر والعوز، وبأن أرض اليمن خصبة مليئة بالخيرات فيقول:
من يزرع الأرض ما يهتان
ولا يدق الشقا بابه
يا تراب الهنا
يا مناجم ذهب
أنت كنز الغنى
وهو حين يسعى لمعالجة أضرار الحرب يخاطب الفلاح مؤكداً أن مدافع الثورة ما انطلقت، واشتعلت إلا من أجله، ومن أجل رفع الظلم الذي أنزلته به الإمامة:
يا زارع الأرض ما دوى هدير المدافع
في فجر سبتمبـر إلا باسم هذا المزارع
واليوم عهد السلام فياض بالنور ساطع
ينيـر دربك ويمحي ما بقـي من مظالـم
[مطهر الإرياني ديوان فوق الجبل صـ 150]
ثم يخاطب الفلاح الشغوف بالأرض، والعمل، بلغة آسرة وقريبة من وجدان الانسان اليمني الذي عركته التجارب والأحداث، فيستفز نزعته نحو السلام، والبناء والعمران:
من بعد حمل الســلاح اليـوم نحمل مفــارس
بأس الحديد الشديد في الطين لا في المتارس
ما احلى رنين الحديد في كف باني وغـارس
إيقاع لحن الحياة يا دايم الخير دايم
تقديس المزارع
اعتمدت الثقافة الإمامية على الرفع من شأن المقاتل، الذي كانت تعتبره منظومتها مجاهدا في سبيل الله، وأن له الحق في إعالته من قبل الفلاحين، بينما كانت تحقّر من شأن الأخير، وهنا فقد أنشأ شاعر اليمن الإرياني عددا من القصائد التي تقدّس المزارع، وتؤكد على دوره في بناء الحضارة اليمنية، واعتباره رمز عزة اليمن:
يا شمس عز الظهر هوني قليل
خفي على الزارع شويه
الزارعي قديس مثل الخليل
يا شمس كوني بارديه
وقت الحمى كل العوالم تقيل
للظل تستجدي لجيه
إلا انت يالفلاح مالك مثيل
في حمل الأثقال العنيه
الله معك يا صانع المستحيل
يا رمز عزتنا الأبيه
الثقافة الشعبية ودورها الوطني
أدت الثقافة الشعبية دورها على أكمل وجه في ثورة سبتمبر وأكتوبر، على يد مطهر الإرياني ورفاقه، أمثال: صالح سحلول، وعلي بن صبرة، وحسين المحضار، وسعيد الشيباني، والفنانين أمثال: محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم، وعلي بن علي الآنسي، فقامت بالتبشير لقيم الثورة، وأهدافها بلغة الشعب، وانتزعت أدواتها لفضح نظام الإمامة من واقع المجتمع، ومن صميم معاناتهم كما في قصيدة 'البالة':
واللّيْلة البالْ ما للنسمه الساريه
هبت من الشرق فيها نسمة الكاذيه
فيها شذى البن فيها الهسمه الحانيه
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغاليه
خرجت انا من بلادي في زمان الفنا
ايام ما موسم الطاعون قالوا: دنا
وماتو اهلي ومن حظ النكد عشت انا
عشت ازرع البن واحصد روحي الذاويه
وكما صوَّر فيها معانات المهاجرين اليمنيين، الذين أجبرتهم قسوة السلطة، وعساكر الإمام وعمّاله على ترك أراضيهم الزراعية، والهروب إلى أصقاع المعمورة بحثا عن الرزق، فإنه إلى جانب ذلك قد "حوَّل وجهتها فنيا من دائرة العشيرة إلى الوجهة الشعبية، ومن عوائد قرية أو قرى إلى تاريخ شعب كامل" [عبد الله البردوني فنون الأدب الشعبي في اليمن ص279].. وتمكّن ببراعة فائقة من جعلها ملحمة تحكي قصة اليمنيين الذين أجبرتهم ويلات الحروب على التشرّد في أصقاع المعمورة.
وفي الوضع الذي تعيشه اليمن وتعانيه، ندرك سر الاحتفاء بنشر قصائده، وأشعاره التي تقدّس الأرض، وتعلي من قيمة العمل، وتمجّد الفلاح، صانع الحضارة اليمنية، من قبل غالبية الشباب اليمني، حيث وجدوا في انتاجه المعرفي سياجا منيعا يحول دون اختراق الدعوات العصبية الضيّقة للحمة الشعب اليمني، كما أنها من جانب آخر ترفع راية الوطنية والهوية الجامعة لليمنيين كافة، وذلك ما يمنح الشعب إمكانية التصدّي لمحاولات تمزيق البلد.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال