تفاصيل المقال

فجر الكهنة

فجر الكهنة

منتدى معد كرب القومي

منتدى معد كرب القومي

مروان الغفوري

كان لعلي بن أبي طالب 14 ابناً ذكراً و17 ابنة. زوّج كل بناته، عدا ثلاث منهن، لأبناء أخيه عقيل وعمّه العبّاس. كان يرى، كما بيّنا سابقاً، قداسة خاصة في نساء بني هاشم، ولا بد من إبقائها داخل الدائرة المُختارة والنأي بها عن دنس الإنسان العادي. من أبنائه الأربعة عشر برز الحسن والحُسين، وهما ابنا فاطمة، وتراجع الآخرون من أولاد النساء الأخريات إلى الظل. رافق الرجلان أباهما في معاركه التي خاضها في سبيل التاج، وبعد مقتله اتبعا سبيله. نصّب الحسن نفسه خليفة ودعا للنفير العام ضد الجيش الجرّار القادم من الشام. وحين أدرك حقيقة أن دعاته ومناصريه لم يجمعوا له أكثر من ستة آلاف مقاتل استسلم لحاكم الشام، وسلّم ما في يديه من البلدان وعاد إلى المدينة. بينما هو يقترب من التوقيع على وثيقة الاستسلام نهره شقيقه الحُسين، وكان أقل منه إدراكاً للمخاطر، فرد عليه الحسن غاضباً: والله لقد هممتُ أن أسجنك في بيت وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن [ابن كثير، البداية والنهاية، ج8]. الشأن الذي كان الحسن يريد أن يفرغ منه سريعاً هو توقيع وثيقة الاستسلام، إذ كان جيش معاوية قد عسكر بالقرب من الكوفة، عاصمة الطالبيين، وكان يُسمع له هدير في حاضرة علي. لم يحتمل المؤرخون تلك الحقيقة فعملوا على منح الإمام المهزوم، الحسن، لباس الحكمة والنبالة كونه حق دماء المسلمين بقراره ذاك، وأنه اتخذ طريقاً كان بمقدوره أن يذهب في سواه. غير أننا نجدهم يتفقون على نقل أحاديث الحسن إلى مستشاريه وأهل بيته عن السبب الذي دفعه إلى الاستسلام: ليس لديه ما يكفي من الرجال ليخوض الحرب. وحين عابه رجال الكوفة، وثمة روايات عديدة تقول إنهم اعتدوا عليه بالضرب وطعنوه، كان يرد عليهم قائلاً إنه فعل ذلك لأنه لم يجد فيهم رجالاً [راجع: البلاذري، ابن كثير، ابن عساكر، وغيرهم].

لا مكان للحكمة في هذا السياق، وبدلاً عنها تتأهل الحقيقة لتكون في الواجهة. استسلم الحسن لا لأن الناس خذلوه كما فعلوا مع والده، بل لأنه نفسه وقع ضحية لأوهامه، ظانّاً أن الناس ترى له القداسة التي يراها لذاته. تلك كانت معضلة أبيه الذي احتفظ له التاريخ بعشرات من الخطابات والمكاتبات يذم فيها شعبه ويكيل له السباب، غارقاً في دهشته من البشر الذين لا يبذلون ما يتوقعه من الفداء لزوج ابنة النبي. استطاع ابن أبي الحديد، المؤرخ المعتزلي المرموق، في شرحه لنهج البلاغة أن يقرّب الصورة على نحو بديع، أعني علاقة علي بشعبه، الشك والقطيعة بين الحاكم والمحكوم. أو ما ستسميه سهير القلماوي في بحثها المرموق حول أدب الخوارج [1937] بأول عصيان مدني نفذته الجماهير العربية ضد الحاكم.

بعد عودة الرجلين، الحسن والحسين، إلى المدينة اتخذا قراراً بإصلاح العلاقة مع معاوية. ذكر البلاذري في أنساب الأشراف، الجزء 3، والعاملي في وسائل الشيعة، الجزء 17، أن معاوية كان يعطي الحُسين ألف ألف درهم في العام [أي مليون درهم]، فضلاً عن عروض وهدايا من كل ضرب، بتعبير البلاذري. يندرج تحت "من كل ضرب" الجواري والجاه والتسامح. لم يتخل الحُسين عن حلمه بالرئاسة، حتى إن مؤرخاً كبيراً كابن كثير يضع عنواناً لخروج الحُسين من مكة إلى الكوفة على هذا النحو: قصة الحسين بن علي بن أبي طالب وخروجه في طلب الإمارة. ابن كثير، كما هم سائر المؤرخين، شديدو التشيّع لآل علي بن أبي طالب، ولم يكونوا يرون مشكلة في ادعاء آل البيت للحق المطلق في حكم الناس. صادق الحُسين معاوية، واعتاد على عطاياه وهداياه عشرين عاماً [بين 40-60 ه]. في الفترة تلك عاش الحُسين متنقلا بين مكة والمدينة، وكان يفد مع أخيه الحسن على معاوية إلى الشام، ويجري بينهم سجال حميد، عامر بالدلالات، كمثل ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية. ففي واحدة من المرّات وهبهما معاوية مائة ألف درهم وغمزهما قائلاً "خذاها مني وأنا ابن هند". فيرد عليه الحُسين قائلاً "والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك رجلاً أفضل منّا".

أفضل رجال العالم، كما يعتقد الحسين عن نفسه، غادر المدينة إلى مكة سنة 60 للهجرة ما إن وصله خبر موت معاوية، ومن هناك قصد العراق لاسترداد حقّه في المُلك. أرسل مسلم بن عقيل، ابن عمّه، لاستطلاع رأي الناس ثمّة ودعوتهم إلى البيعة. لنستمع إلى ابن كثير في البداية والنهاية وهو ينقل لنا مشهد وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة: "فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين وحلفوا له لينصرنّه بأنفسهم وأموالهم". لم يشك ابن كثير لحظة واحدة في أن الأمر متعلق برغبة شديدة في الإمارة، أو ما يسميه الحسين بالحق. نجحت مهمّة ابن عقيل أول الأمر، وانتهى به الحال إلى صدام عسكري دموي مع ابن زياد، حاكم الكوفة. وحين أتي به أسيراً سأله ابن زياد "كأنك تظنّ أن لكم في الأمر شيئا؟" فيرد عليه مسلم بن عقيل: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين [ابن كثير، البداية والنهاية، ج8].

نحواً من هذا سيجري حوار في الوقت نفسه في مكان بعيد عن الكوفة، في مكّة. فبعد مغادرة الحسين لمكّة يعاتب عبد الله بن الزبير ابنَ عبّاس قائلاً "والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس"
فيرد عليه ابن عبّاس: "إنما يرى من كان منه في شك، ونحن من ذلك على يقين. أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟"
فيقول ابن الزبير: بشرفي.
قال ابن عبّاس: بماذا شرفت؟ إن كان لك شرف فإنما هو بنا، ونحن أشرف منك [البلاذري، أنساب الأشراف. ابن أبي الحديد، شرح النهج].

وبما أننا قد أتينا على ذكر ابن الزبير، الذي سيقود ثورة انتحارية هو الآخر، فإننا نجد في خطابه السياسي لغة أخرى أرضية وذات طبيعة قانونية بخلاف الحسين. فهو يخاطب جماعته مشيراً إلى بني سفيان بحسبانهم "من في عنقهم حقوق الناس"، يحيل ثورته إلى الحقوق والناس. يقف الحسين في موضع بعيد كلّياً عن تلك المسألة، ولا ترد عنده إلا مغمورة بالحديث عن حقّه، وعن استثنائيته هو وأسرته. إذ يقف أمام طلائع جيش ابن زياد، على تخوم الكوفة، ويخاطبهم "إن هؤلاء قوماً لزموا طاعة الشيطان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم، فإن تتموا عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم".

لا يوجد في الخطاب السياسي للحسين ما يدل على أن الرجل يرى الحكم ملكاً لكل الناس، أو أنه مساو للبشر، يتشارك معهم الدرجة نفسها من الحق والواجب. ثمة مهمتان لا ثالث لهما، كما تحددهما خطاباته الثورية: مهمته في أن يصير حاكماً، ومهمّة العامة في أن يجعلوا ذلك الأمر ممكنا. ففي خطابه إلى أهل الكوفة غداة وصلته أولى رسائل الاستطلاع من ابن عمه يقول:
"أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا، فأثابكم الله على ذلك أعظم الأجر" [البلاذري، أنساب الأشراف].

وفي العراق سيقف وجهاً لوجه أمام الوليد بن عتبة [بن أبي سفيان]، وسينهره الحسين: "يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربه، تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقي ما جهلته أنت وعمّك". دائماً ما يقرن الحسين بين رضا الله عن الناس ورضاه هو عنهم، وأن الأمرين شأن واحد.

كان الحسين، في كل خطابه السياسي المكتوب والملفوظ، متوثقاً من أمرين اثنين: حقه المطلق في حكم الناس، وجنة الخلود لمن يساند ذلك الاختيار من عوام الناس. وحين يدفعُ جنود ابن زياد أخ الحسين من الرضاعة، عبد الله بن يقطر، ليذم الحسين أمام الناس فإنه يقول لهم:
"إني رسول ابن بنت رسول الله إليكم لتنصروه على ابن سمية وابن مرجانة".
كان الحسن قد لجأ إلى الخطاب نفسه محاولا حشد الناس لمواجهة معاوية في العام 40 ه، أعني التحريض مستخدماً دالّة ابن فاطمة وابن مرجانة. وسمية تلك لم تكن أماً ليزيد أو لمعاوية، بل هي الأم العادية التي تنجب أناساً عاديين، وتصير سبّة وجريمة فيما إذا حاول العاديون مساءلة أبناء العترة، أو مشاركتهم.

مضى الحسين في طريقه، وكلما التقى رجلاً أو معشراً قال لهم أنه ماض إلى استرداد حقّه، والحق هُنا تقدير إلهي كما يرى. وما إن يتوغل في أرض العراق حتى تصله خيل الحر بن يزيد التميمي، من رجال يزيد، وتكون مهمته مراقبة موكب الحسين عن كثب. ينتهز الحسين فرصة اقتراب الجنود منه فيبلغهم بسبب مجيئه ودعوته للثورة، يقول:
"إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن ذلك أرضى لله، وإن أنتم جهلتم حقنا انصرفتُ عنكم" [البلاذري، أنساب الأشراف، ج3].

كان يعي ما يقول حين ينسب الحق إلى العترة بكلها "حقنا"، كي يصبح حقّا مفتوحا على مر الأزمان لا يسقط بموت قدامى الأئمة. فدائماً هُناك حق، أي سلطة، ودائماً ما يكون هناك "نا" أي عترة، وارتباط العترة بالسلطة هو "ما يرضي الله"، بحسب كلمات الحسين.

ثمّة أمر خطير هُنا يتجاهله المؤرخون، وهو رحلة مسلم بن عقيل من مكة إلى العراق. تذكر مصادر عديدة أن ابن عقيل ومن معه اتخذوا دليلين عارفين بالصحراء، غير أن ذينك الدليلين فقدا حياتهما، واحداً تلو الآخر، من العطش. وهنا نسأل: كيف يموت رجلان متمرسان على الصحراء والعطش وينجو ابن عقيل بن أبي طالب ومن معه، وهم من سكّان الحواضر؟ أغلب الظن أن ابن عقيل احتفظ بما لديه من الماء ومنعه عن الدليلين، وتركهما يموتان أمام عينيه. وربما تشاجروا على القليل من الماء وانتهى الأمر بالدليلين صرعى بيد سيوف آل البيت. مثل تلك القضايا، على أهميتها البالغة وما تحمله من إشارات ثرية، يتجاوزها المؤرخون.

لا يوجد في سيرة الحسين ما يشير إلى أنه كان يفهم حقوق الناس، أو يدرك شيئاً عن رغبتهم في الحرية والكرامة، وهي المعاني الأساسية لأي ثورة بصرف النظر عن زمنها ومكانها. إن خياله السياسي يصدر عن فشله في فهم الإسلام، فهو يخلط بين النبوة والسلطة على نحو مدمر. ولا يرى وحسب إن النبوة تؤول إلى سلطة، وأنها تنتقل في الأبناء، بل يذهب أبعد من ذلك. فالنبوة نفسها غير منتهية، وقد وصلته بطريقة ما.

يمكن لأي باحث في التاريخ أن يرى كيف يتقمص الحسين دور النبي، يمنح الغفران للأفراد والجماعات، يعد الناس بالجنة أو النار، ويبدو حاسماً وقاطعاً في كل أمر يراه، وكان آخر ما سمعه مثقفو المدينة ومكة منه [أعني المحدثين والفقهاء] قوله إنه ماض لإنفاذ أمر الله الذي بلغه.


يتبع ..

التعليقات 0:

تعليقك على المقال