الوهم العظيم: المعضلة الزيدية وكيف تحولت المشاريع الوطنية إلى سراب في مواجهة العصبيات
فتحي أبو النصر
منذ مطلع القرن الماضي، كان النضال من أجل بناء دولة يمنية جامعة هو الحلم الذي رسمته أجيال متلاحقة، حملت على عاتقها مشروعاً طموحاً يقوم على العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية والانتقال إلى حياة مدنية حديثة. لكن، وعلى الرغم من التضحيات الجسام التي بذلها هؤلاء، فإن هذا المشروع ظل عالقاً بين براثن النزعات العصبية والولاءات الضيقة التي حولت الحلم إلى كابوس.
ولهذا لم يكن الطريق إلى بناء الدولة اليمنية سهلاً، بل كان مشحوناً بتحديات تعود جذورها إلى التاريخ الاجتماعي والسياسي للبلاد. منذ أيام الإمامة العثمانية حتى ما بعد الثورة اليمنية، ظلت النخب الوطنية تحاول تحقيق قفزة نوعية نحو مشروع الدولة المدنية، متجاوزة النزاعات الجغرافية والمذهبية.
لكن اللافت أن هذا النضال، الذي كان مدفوعا بالإيمان بوحدة الوطن والمجتمع، غالبا ما قوبل بالجحود أو التجاهل. لم يكن الفشل نابعاً فقط من الخارج، بل من الداخل أيضا، حيث تلاعبت نخب عصبية بالمشروع الوطني، وحولته إلى أداة لتحقيق مصالحها الشخصية والضيقة.
بمعنى إن فكرة الدولة القائمة على القانون والمؤسسات لم تلقَ قبولا لدى أولئك الذين يرون السلطة كامتداد طبيعي للقبيلة أو المذهب. فبدلاً من التنافس على بناء مشروع وطني جامع، تصدرت مشاهد الإقصاء، حيث عمدت قوى نافذة إلى احتكار السلطة، متذرعة بمفاهيم تاريخية تمنحها شرعية زائفة.
لقد كانت هذه العصبيات تتحرك تحت غطاء ثقافي واجتماعي مغلق، يؤمن بأن الصمت الوطني ضعف، والقبول بالتعايش المدني خضوع. وهكذا، تم تصوير أي محاولة للحوار أو الشراكة كاعتراف ضمني بسطوة الهيمنة، ما أدى إلى تفريغ مفهوم الدولة من مضمونه وتحويله إلى أداة في يد مجموعات تسعى لفرض نفوذها فقط.
وبما أن التنازل لم يكن يوماً وسيلة ناجحة لتحقيق العدالة أو تعزيز الشراكة الوطنية. بل على العكس، أدى إلى تآكل المشروع الوطني الذي رفعته القوى التقدمية. كان الثمن باهظاً: مشروع مدني يقاوم طوفان العصبيات، لكنه ينحني تحت وطأة التنازلات المستمرة التي أضعفت موقفه وأفسحت المجال لصعود مشاريع صغيرة تتسم بالعنف والهيمنة.
فما حدث في اليمن يمكن وصفه بأنه سقوط "شعرة الوهم"، أي تلك النقطة الفاصلة بين الأمل واليأس. إذ بمجرد أن انقطع خيط الأمل بإمكانية تحقيق الدولة الجامعة، انهارت كل الجهود لتغرق البلاد في دوامة من النزاعات التي لا نهاية لها.
صحيح أن دعاة الدولة المدنية حاولوا تقديم نموذج متماسك يقوم على الحوار والتعايش، لكنهم اصطدموا بنموذج آخر مبني على القوة والإقصاء. هذا النموذج لم يكتفِ برفض الآخر فحسب، بل عمل على تدميره عبر أدوات سياسية واجتماعية مدمرة، مستغلاً رواسب التاريخ ومخاوف الهوية. نموذج الميلشيات الحوثية ليس إلا.
وعلى مدى عقود، حاول المشروع الوطني في اليمن أن يبني على روافد الفكر التقدمي الذي يرى في الدولة حلاً جامعاً يتجاوز القبيلة والمذهب، لكن هذا المشروع تعرض للتآكل بسبب التحديات الداخلية والخارجية. في النهاية، انتصرت المشاريع العصبية التي رأت في الدولة مجرد وسيلة لتمكين قوتها.
ومن المؤسف طبعا أن نرى الحلم الوطني يتحول إلى سراب. خصوصا بعد ما بات واضحاً أن كل تنازل تم تقديمه باسم الشراكة كان يُفسر على أنه اعتراف بالهيمنة. وكل محاولة للتوافق كانت تقابل بالتشكيك والتهديد.
ومع ذلك، فإن أطلال الدولة لا تزال تحمل في طياتها فرصة للنهوض، بشرط أن يتم تجاوز أخطاء الماضي. وهذا لن يتحقق إلا من خلال وجوب أن تصبح الدولة كيانا محايدا يمثل الجميع، بعيداً عن نزعات العصبيات الضيقة. فضلاً عن التعامل الحاسم مع مشاريع الإقصاء: أي مشروع يستند إلى القوة بدلاً من الحوار يجب أن يتم التصدي له عبر أدوات قانونية ومجتمعية واضحة. بهكذا فقط يمكن إعادة بناء الهوية الوطنية ما يتطلب جهداً جماعياً لتعزيز قيم المواطنة المتساوية، ونبذ الخطابات التي تروج للعصبية والانعزال.
صدقوني إن قراءة تجربة اليمن ليست مجرد استعراض لماض مؤلم، بل هي دعوة لتجنب تكرار الأخطاء. ذلك أن قوة المشروع الوطني لا تكمن فقط في عدالة أفكاره، بل في قدرته على الصمود أمام التحديات، وإيجاد الأدوات المناسبة للتعامل معها.
وقد يكون المشروع الوطني في اليمن قد فشل في لحظة معينة، لكن هذا لا يعني استحالة إعادة إحيائه. فالتاريخ مليء بالأمثلة على الشعوب التي تجاوزت لحظاتها المظلمة لتبني مستقبلاً أكثر إشراقاً. السؤال الأهم اليوم: هل نحن مستعدون لتعلم الدرس؟
غير أن معضلة اليمن واليمنيين تتمثل في المذهب الزيدي الذي يعيق بناء الدولة المدنية الحديثة. فالزيدية، كأحد المذاهب الإسلامية، تعد جزءً من النسيج الثقافي والاجتماعي اليمني، ولكنها اكتسبت سمعة مثيرة للجدل في سياق بناء الدولة المدنية الحديثة، لا سيما من خلال الهادوية، النسخة الأكثر هيمنة من هذا المذهب في اليمن. تاريخيا، ارتبطت الزيدية الهادوية بفكرة الإمامة الدينية والسياسية، حيث أُعطت الأولوية لسلالة الهاشميين وشرعيتهم الحاكمة، ما أدى إلى تأسيس أنظمة حكم تستند إلى القيم الدينية والمذهبية بدلاً من مفاهيم المواطنة والعدالة الاجتماعية.
والأخطر أن النزعة المذهبية في الزيدية أدت إلى تعميق الانقسامات القبلية والمناطقية، خصوصاً في شمال اليمن، الذي أصبح معقلاً للزيدية الهادوية. هذه النزعة أسهمت في عرقلة بناء مؤسسات مدنية تعتمد على المواطنة المتساوية، إذ تركزت السلطة في أيدي النخب الدينية الهاشمية بدلاً من نشر نظام يقوم على المشاركة العامة.
فلقد اعتمدت الزيدية على مفهوم "الخروج على الحاكم الظالم"، ما أضفى شرعية على الانتفاضات المسلحة. ومع ذلك، أدى هذا المبدأ إلى إشعال الصراعات المتكررة، بدلاً من بناء هياكل سياسية مستقرة. منذ ظهور الحوثيين كقوة سياسية وعسكرية، عززوا ارتباط المذهب الزيدي بالمشروع السياسي السلالي، ما خلق مزيداً من الاستقطاب وأضعف إمكانية تحقيق مشروع وطني جامع.
والشاهد أن الأفكار الأساسية في المذهب الزيدي تتناقض مع مبادئ الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على المساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو النسب. فيما تركيز الزيدية على العصبية الدينية والقبلية أعاق تطوير نظام سياسي يضمن العدالة الاجتماعية وسيادة القانون.
وحتى نستطيع تجاوز هذه العقبات، يجب الفصل بين المعتقدات الدينية والسياسات العامة، مع تعزيز مفاهيم الدولة المدنية القائمة على الحقوق المتساوية والحكم الرشيد. ذلك إن بناء دولة مدنية حديثة في اليمن يتطلب مراجعة شاملة للإرث المذهبي والتاريخي الذي أعاق تأسيس مجتمع قائم على المواطنة والتعددية السياسية.
بهذا المعنى، فإن معالجة تأثير الزيدية تتطلب مواجهة مزدوجة: تفكيك العصبيات المذهبية من جهة، وتعزيز ثقافة المواطنة والقانون من جهة أخرى. فقط من خلال هذه الخطوات يمكن لليمن أن يتجه نحو بناء دولة مدنية حديثة ومستقرة.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال