الزرانيق.. تاريخ من الإباء
منتدى معد كرب القومي
ملف تاريخي أعده: حسن مشعف
تعتبر الزرانيق من أشهر قبائل تهامة اليمن,تقيم ما بين الحديدة، وزبيد، وأهم المدن التي تقيم فيها بيت الفقيه. وتشير بعض الإحصائيات والتقارير إلى أن عدد سكانها يتجاوز 90000 نسمة. وتنقسم إلى قسمين: زرانيق الشام، وزرانيق اليمن (الشمال والجنوب).
باحث يكشف نضال تهامة
وفي حديث خص به صحيفة "الأهالي" قال الباحث اليمني الدكتور عبدالودود مقشر-أحد أبناء تهامة الذي قام بإعادة كتابة التاريخ التهامي المتمثل في أطروحته الأكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه والمعنونة بـ»حركات المقاومة والمعرضة في تهامة 1918-1962م»، يكشف عن مقاومة أبناء تهامة وقبائلها ومنها الزرانيق للحكم العثماني من 1849- 1918م ثم المقاومة ضد الاحتلال البريطاني أثناء احتلال الحديدة واستعمارها من عام 1918وحتى 1921م وجلاء المستعمر البريطاني ورحيل آخر جندي بريطاني عن الحديدة في 21مارس 1921م مؤكداً أن لتهامة دور بارز تمثل في المقاومة والمعارضة خلال فترة الحكم العثماني والنكبات التي منيت بها تهامة على يد الإمام يحيى وأحمد.
ويواصل «مقشر» حديثه أن تهامة قدمت العديد من الثوار ورواد الثقافة بل تعتبر مقاومة تهامة للحكم الإمامي البغيض هي المدامك التي هزت عرش الإمامة وسهلت للثوار اليمنيين القضاء عليه ومن أبرز هذه القبائل المقاومة» الزرانيق جنوب الحديدة وصليل والجرابح شمال الحديدة وصمدت مدينة زبيد للطغيان الإمامي لفترة ليست بالقصيرة وزج بالآلاف من أبناء تهامة في سجون الإمام في ظروف غير إنسانية وأجواء مناخية مغايرة لبلدانهم وأوضاع مزرية أدت إلى فناءهم في تلك المعتقلات.
ويضيف بقوله: «لقد قدمت تهامة فيما بعد شخصيات بارزة من أمثال الأستاذ الشاعر إبراهيم صادق والمفكر الاقتصادي طاهر رجب وأخيه الكابتن عبدالله رجب والشيخ محمد مكي والشاعر علي عبدالعزيز نصر والشيخ المناضل أبكر يوسف بيروة والأستاذ الصحفي أحمد محمد هاجي والأستاذ محمد علي الجفري العلوي والأستاذ عثمان عميرة واللواء محمد الاهنومي والمفكر الشاعر يوسف الشحاري والأستاذ أحمد جابر عفيف.
جغرافية الزرانيق
ويلخص العلامة المؤرخ محمد بن يحيي الحداد رحمه الله قضية الزرانيق مع الإمامين المتوكل يحيى حميد الدين وولده الناصر أحمد الذي تعامل بكل العنف مع هذه القبيلة الباسلة التي كان بإمكانه أن يحسن استخدام بطولة فتوتها لحراسة الثغور والجزر السائبة في البحر الأحمر، يقول الحداد في المجلد الخامس: وتنقسم المعازبة إلى الطرف الشمالي والطرف اليماني والمنطقة الغربية فالطرف الشمالي يمتد من منتصف مدينة بيت الفقيه آخذا من مبنى الحكومة فالمنصورية الجنبعية، والجامع شرقا ويمر باللاوية ويمثل هذا القسم آل منصر، والطرف الجنوبي يمتد من منتصف مدينة بيت الفقيه الجنوبي من مبنى الحكومة إلى الكويع فالحسينية ويمثل هذا القسم آل الفاشق، أما المنطقة الغربية فتمتد على طول الساحل ويشمل الدريهمي ورمال وقبضة والطائف والجاح ومركزه الطائف ويمثل هذا القسم أحمد فتيني جنيد، وهناك عزل مستقلة ولكنها تستجيب للداعي ومنها المعازبة ومركزها الصعيد ويمثلها إبراهيم مجملي والعباسية والمحطبية ويمثلها شلاع جروب، والمقابيل ويمثلهم محمد مقبول وآل مقبول والمحامدة ويمثلهم محمد غلاب والوعارية والمجاملة وعزل أخرى عكية وأشعرية ونقائل أخرى تدعى المخارمة غير أن مخرم زرنق طغى اسمه وشمل الجميع.
وعن ثورة الزرانيق المستمرة والممتدة على الظلم ومنها قبيلة عك أكبر قبائل الإقليم التهامي والتي شغلت ألف سنة مقاومة متذمرة على مظالم الدول من لدن الزياديين (ق 4هجرية) إلى عهد الإمام أحمد القرن 14 هجرية يورد الأديب الراحل عبدالرحمن طيب بعكر في كتابه «كيف غنت تهامة» بعض قصائد شعرية ممن سجل لتلك المقاومة متوجعا لها حينا وشاكيا حينا أضرارها وسلبياتها على أملاكه وهو محمد بن حمير منها:
لا ترحم الأعراب لا أعراب هم
ظنوا بأن الأمر متروك سدى
والله ما أيمانهم نفعت بهم
تركوا قصورك في المدائن فدافدا
لا«سردود يؤتى» ولا «الكدري»
ومن يأتي «ذؤال» يجد خيولا رصدا
أما الحراثة سرحوا أضمادهم
ما إن بقى أحد يركب مضمدا
وكذا النجابة ما بقى جمل لهم
يسري به الحادي إليك إذا حدا
مؤكداً بأن مدينة بيت الفقيه وفصيليها العكي المعزبي (الزرانيق) ظلت طوال عهد الأتراك وفي مقدمة دولة الإمام يحيي تمثل عنوان الإباء والتصدي لمظالم المتسلطين الجائرين.
علاقة الزرانيق بالإنجليز
دعم الإنجليز لتمرد الزرانيق على الإمام لا يعني -حسب بعكر- عمالة زرنوقية للإنجليز كون المقاومة كانت عبر قرون وإنما تمسح بها الإنجليز ليتخذوا منها عامل ضغط على الإمام حتى يتخلى عن «الضالع، والشعيب وجبل جحاف في الجنوب».. وينوه بعكر إلى أن مواجهة الزرانيق الشجاعة لرعود سيف الإسلام أحمد وبروقه والتي استغرقت سنتين كاملتين سجلت خلال نضالاً كبيراً، وتفجرت فيها النفسية المعذبة المظلومة بأحر الزفرات وأعلى التوثبات.
ملفتا إلى دور أحد أبطال تهامة الأفذاذ وهو الشيخ أحمد فتيني جنيد الذي يقول عنه «إنه شب منذ شب أبيا مقداما قبل مجيء الإمام وبعده ودون احتياج إلى دعم الإنجليز أو غيرهم فقد ورد في حوليات يمانية عن موقف له مع الأتراك وقد كونوا يحكمون سائر البلاد وأنه اتصل بالمتصرف التركي بقضاء «بيت الفقيه» في بعض أغراضه لديه ولعل المتصرف كان مخموراً فأغلظ القول للشيخ أحمد ولطمه في وجهه فاستل الشيخ جنبيته ووضعها في ترقوة المتصرف حتى نفذ بها إلى أسفل بطنه وتركه قباة ممزقة وخرج إلى قبيلته يعلن العصيان «ومن أخباره الدالة على ثبات جأشه وعدم اكتراثه بالمواجهة أنه بينما كان يتناول القات في منزله إذا بأصوات جيش الإمام تتحرك للقبض عليه ودخول موقعه وبدلا من أن يتحرك لمواجهته طلب من المدافع التابع له أن يعمر نارجيلته التنمباك المنصوبة أمامه قائلاً: «عمر، وطنبش» وقد ثبت في المقاومة شهوراً ولما عجز عن الاستمرار انسحب بأهله وبعض قومه إلى المملكة العربية السعودية ولجأ بها وفيها توفي».
حصار السفن الانجليزية
شددت المراكب الانكليزية الحربية خناق الحصار البحري على السواحل اليمانية الخاضعة للحكومة العثمانية، فكانت سفن الزرانيق وسواها من سكان الشواطئ تغامر في السفر إلى مرفأ ميدي في شمال اليمن الذي كان طليقاً من قيد الحصار لوجوده في منطقة السيد محمد الإدريسي فتحمل البضائع إلى الجنوب تخفيفاً لوطأة الحصار، وكانت السفن الحربية تطارد هذه السنابيك فتغرق منها ما عثرت عليه وترهق بحارتها قتلا وتغريبا حتى أخذ اليأس من نفوس هؤلاء ايما مأخذ، وهو الذي يولد قوة لا يقاومها شيء. فتواعد أرباب السنابيك المتجمعة في مرسى ميدي وجمعوا أسطولاً صغيراً يتألف من عشرين سنبوكا ووطدوا النفوس على التفاني في إنقاذ سفنهم وإيصال شحنها إلى بلادهم التي كانت بأشد حاجة لذلك الشحن، فوصلوا ذات مساء إلى حذاء مدينة اللحية حيث بوغتوا بسفينة حربية خفيفة كانت راسية هنالك بقصد المراقبة فلم تلبث تلك السفينة لدى رؤيتها ذاك الأسطول الغريب الجريء حتى سارعت للسلام بإطلاق مدافع تقذف حمما ومواد ملتهبة، فقابلها بحارة الأسطول بالبنادق من كل حدب وصوب بعد أن عبأوا سنابيكهم في ملاجئ تلك السواحل بصورة ضللت عنهم هدف القنابل، فحار رجال السفينة الحربية إلى أي جهة يعطفون بنارها وشرارها، وكانت مرامي مائتي بندقية تتهاوى في أفق السفينة وتقضي على بعض بحارتها حتى شبهت هذه السنابيك ورجالها نملا تهاجم أفعى فترديها.
استمرت هذه المعركة نصف ساعة والسفينة الحربية تفرق مراميها على هذه الحيتان أو الأخطبوط ذي العشرين يدا دون أن تنال منه مأربا، وكان الظلام قد أخذ ينسج ستاراً حالكاً حجب به ربان السفينة عن مشاهدة أعدائه، ولكن هذا الستار ما كان ليستطيع أن يقاوم سهام الأنظار الحادة التي كان يلقيها رجال السنابيك من وراء هذا الستار فيخرقه رصاصهم المسدد إلى أنوار السفينة التي كانت قد أنقذت مرساتها من مخالب الصخور، ورأت أن مغادرة ساحة المعركة إلى نجاح البحر الفسيح هو خير وأبقى، ففارقت تلك البقعة فرقاً غير وامق، واستمر قطيع الحيتان وعليها تلك الخيالات البشرية كأنها مردة أوجان تغوص وتطفو على سطح البحر ميممة منحاها وهم يكبرون ويهللون قائلين: (بسم الله مرساها ومجراها).
ذكرت هذه المشاهدة إثباتاً لما هم عليه الزرانيق، فهذا من الشجاعة على متون السفن أيضاً، وقد خصصهم الله بطرق التجارة البرية بين شمالي اليمن وجنوبها، كذلك اجتازوا طريق التجارة البحرية فلا بد للسفن الشراعية السائرة من الجنوب إلى الشمال أو بالعكس من المرور على مقربة من شاطئ الزرانيق، الأمر الذي يجعل لهذه القبيلة أهمية زائدة في محيطها.
وقد سطا رجالها مرات عديدة على القوافل التجارية براً والسفن الشراعية بحراً، وإنما لم يكن هذا صادراً عن غريزة في السلب أو قرصنة فطرية، فلم يسبق لهم عمل من هذا القبيل بل كان مقابلة بالمثل.
وكثيراً ما كان بعضهم يعتدي على القوافل والمواصلات البريدية والبرقية انتقاماً من بعضهم الآخر بسبب جر مغنم أو تأمين مقصد ليجبر الحكومة على التدخل في الأمر سلماً أو حرباً.
قصة التمرد الزرنوقي
ويذكر بعكر أيضاً في المرجع ذاته قصة تمرد الزرانيق على الإمام يحيى التي بدأت عام 1925م، 1346هجرية وقد بعث الإمام يحيى لإخضاعها حملة قوامها ألف جندي ذكر أن القبيلة بيتتها وأبادتها عن آخرها كما قتلت قائد الحملة الأمر الذي حمل الإمام يحيي في العام الذي تلا العام المذكور على تجهيز ولده أحمد على رأس جيش كبير قوامه عشرة آلاف مقاتل من حاشد وغيرها.
وأمر مع ذلك عددا من القبائل المجاورة للقبيلة بالانضمام إلى الجيش واستمرت الحرب بين الجانبين سنة وخمسة أشهر من شهر جماد الأول 1347هجرية، إلى شهر رمضان 1348هجرية قتل خلالها العديد من الجانبين مما اضطر الإمام أحمد خلالها إلى أن يأتيهم من جهة البحر بهدف قطع المدد الذي زعم أنه يأتيهم من الإنجليز فاستولى على غليفقة والطائف وغيرهما وأنشأ بالمناسبة قصيدته المشهورة التي مطلعها: «صاح إن الجاح قد أضنى فؤادي» والتي خاطب في بعضها أمير تعز علي بن عبدالله الوزير بقوله: يا جمال الدين هل من غارة؟ وقد تمكن بعد عام كامل من السيطرة على قرى ومراكز القبيلة في الساحل واستولى على ما وجد فيها، وفي بيت شيخها أحمد فتيني من أسلحة وعتاد وبعد أن فر أحمد فتني إلى كمران وحصن منطقة الساحل ببناء حصن في الطائف ومد إليه التلغراف ليكون على صلة بصنعاء ومركز تهامة وغيرها، ثم تقدم نحو الداخل وتعذر عليه الاستيلاء على مدينة بيت الفقيه مركز المنطقة وتنفيذا لتوجيهات والده باتباع سياسة المرونة فإنه قصد منصب المنصورية يحيى بن أحمد البحر وطلب منه التوسط في حسم الحرب وحدث في نفس الوقت أن اختلف قادة القبيلة فيما بينهم بسبب الغرم وكان من أبرز القادة المختلفين الشيخ يحيى منصر والشيخ محمد سعيد مقبول فانتهز الأمير أحمد ذلك وسيلة للدخول في المفاوضات واستطاع أن يجتمع بالشيخ يحيي منصر عن طريق منصب المنصورية المذكور وقام بين أحمد ومنصر حوار عنيف حول إيقاف الحرب وتمكين أحمد من دخول بيت الفقيه توصل بعد ذلك إلى الاتفاق على إيقاف الحرب بشروط منها عدم التعرض للمدينة، بسلب أو نهب وعدم معاقبة رجال القبيلة، أن تكون الزكاة بنظر الزرانيق، أي بنظر مشائخ القبيلة، وطلب الشيخ منصر من أحمد أن يمده بألفي جندي يدخل بهم بيت الفقيه ويمهد بذلك لأحمد دخولها فامتنع أحمد ذلك خشية أن يكون مصيرهم مصير يحيى قيس (لعله القائد الأول الذي بيتته القبيلة مع جميع جنوده قبل تجهيز أحمد جيشه) فرد عليه الشيخ منصر بقوله: سلمني ذلك وسترى، فرفض أحمد وأصر إلا أن يكون هو القائد الفاتح لبيت الفقيه فتقدم بنحو ألفي مقاتل نحو بيت الفقيه ولكنه صد من جانب الطرف اليماني أصحاب الفاشق وعاد أحمد إلى مقره في القائم وعاد إليه الشيخ يحيى منصر وطلب منه أن يدخل معه يوم الثلاثاء، أي اليوم التالي الذي صد فيه منتهزا اشتغال القبيلة بتضميد جراحها ودفن موتاها فأجل احمد التحرك إلى يوم الأربعاء وفيه تحرك مع الشيخ منصر وجنوده نحو المدينة وتمكن من الاستيلاء عليها في نفس اليوم من شهر رمضان 1348هجرية..
مشيرا إلى ما يذكره المؤرخ الكبير إسماعيل الأكوع في كتابه الهجر والمعاقل أن الضابط الردمي دخل بكتيبته إلى مدينة بيت الفقيه قبل دخول أحمد فعاقبه على ذلك.
معركة القوقر
قبل ثمانين عاماً وتحديداً في 8 مارس 1928م من القرن المنصرم قام الإمام يحيى حميد الدين بتجهيز جيش جبار لاجتياح تهامة وإخضاع قبيلة الزرانيق, حيث أعلن زعيمها الشيخ أحمد فتيني جنيد أنه لا سلطان للأئمة عليه وأن الإمام عميل بريطاني لأنه وقع على صلح دعان عام 1911م وانتهك سيادة اليمن الطبيعية وسلمها للمحتلين، لكن الإمام رد عليه بأنه عميل لإيطاليا التي كانت تحتل الجانب الغربي من مياه البحر الأحمر في ارتيريا وأنها تمده بالسلاح والمال.
وصل جيش الإمام إلى تهامة وعاث فيها فساداً ونهب أكثر من «100» قرية كان أهلها مسالمين, لكن وبمجرد وصول قوات الإمام بقيادة علي بن الوزير نائب الإمام حينها والطامح إلى وراثة العرش إلى ضواحي مديرية الدريهمي جنوب مدينة الحديدة حالياً انقض عليه مقاتلو قبيلة الزرانيق وأذاقوه هزيمة منكرة دفعه للعودة إلى صنعاء ليجهز الإمام جيش آخر بقيادة قائد من صعدة ومن قبائل بني قيس يسمى علي بن يحيى القيسي.
وصل القيسي بقواته إلى تهامة وحمل رسائل من الإمام إلى السادة الهاشميين يدعوهم فيها إلى توعية الناس بالولاء والطاعة لولي الأمر وعدم الخروج عليه وأن الشيخ الفتيني جنيد ومن معه من الزرانيق ما هم إلا عصابة عميلة لدولة أجنبية وهو ما كان ينكره الجنيد وأتباعه ويقولون أن الإمام عميل لبريطانيا وقوى الاستعمار وأنه يحارب مذهبهم وعقيدتهم ويفرض المكوس عليهم وعند وصول جيش الإمام بقيادة القيسي إلى وادي القوقر شمال بيت الفقيه عاصمة الزرانيق في منتصف مايو 1928م جرت مفاوضات بين مشائخ الزرانيق والسيد المدرك بن البحر مفتي تهامة حينها وصاحب المكانة بتكليف من الإمام يحيى بن حميد الدين بأن يتم الصلح ويسلم الزرانيق المدينة ويدعوا للإمام بصفته ولي الأمر ويسلمون له الزكاة ويطيعوا أوامره، وهو ما وافق عليه شيخ الزرانيق الجنيد على مضض خوفاً من تحميله دماء الناس لكن القيسي قائد جيوش الامام وجد في قبول الصلح نوعاً من الاستسلام والخضوع فجهز خطة لمباغتة الزرانيق ليلاً والدخول إلى عاصمتهم بالقوة لينهب المدينة الغنية حينها بالمواشي والتجارة لكن الخطة فشلت بعد أن تمكن الزرانيق من معرفتها فنفذوا هجوماً شرساً على جيوش الإمام في وادي القوقر فجر الاثنين العشرين من مايو 1928م وحاصروه من كل جهة مزودين بعتاد قاموا بشرائه من القراصنة البريطانيين قبالة سواحل جزيرة كمران وقتل حينها أكثر من ثلاثة آلاف جندي من قوات الإمام على رأسهم قائدهم القيسي في معركة تعرف بوادي القوقر وعندما علم الإمام بالهزيمة التي لحقت بجيشه ومقتل قائده استدعى كل مستشاريه واستدعى نجله البكر أحمد بن يحي حميد الدين وكلفه بقيادة الجيش وإخضاع المتمردين الزرانيق لسلطته ودك حصونهم وقتل زعمائهم على أن تكون مكافأته ولاية العهد من بعده.
سال لعاب الوريث الذي لُقب بسيف الإسلام أحمد حينها، ودعا كل زعماء ومشايخ العشائر من حاشد وبكيل ومذحج ونزل بقوات جبارة إلى تهامة واقتحم مدنها بما فيها الحديدة، وعند وصوله إلى مشارف أراضي الزرانيق مُني بعدة هزائم متتالية جعلت جيشه يتقهقر ويشعر بالرعب لكن عناد أحمد «ياجناه» وطموحه للعرش جعله يُضحي بعشرات الآلاف من القتلى والجرحى في سبيل تسجيل انتصار، وقد سجل في أشعاره اعترافه بقوة الزرانيق ومرارة المعارك في القوقر والجاح حيث ظل أكثر من عام وهو يتكبد الخسائر بها.
استطاع احمد «يا جناه» آخر الأمر أن يُجند عددا من أبناء المنطقة كعملاء وطابور خامس وهم من مشائخ وتجار الزرانيق، وبعد معركة شرسة وانتحارية دخل السيف احمد بيت الفقيه في 26 سبتمبر 1929وعاث وجيشه بالمدينة قتلاً ونهباً وقام بهدم قبة ولي الله الصالح أحمد بن موسى عجيل (الفقيه الذي تنسب إليه مدينة بيت الفقيه حاليا)، ودُكت المنازل والقلاع وأطلق السيف أحمد الأساطير على أنه لا يُهزم وصاحب الكرامات وأن الجن تحميه حتى أُطلق عليه أحمد ياجناه وقام بأسر معظم مقاتلي الزرانيق بعد فرار زعميهم الشيخ أحمد فتيني جنيد عبر البحر وهو جريح وأسر زعيمهم الميداني الشيخ محمد سعيد مقبول وترحيله مع 721 من مقاتليه إلى سجن نافع بحجة حيث تم تصفيته هناك بعد انتصار السيف احمد «ياجناه» ذاع صيته كقاهر الزرانيق في كل أرجاء اليمن ليُصبح ولي العهد المنتظر وهو ما عج 'ل بغضب الأسر الهاشمية التي توارثت حكم اليمن عبر شروط الإمامة الزيدية التي تقضي بأن يكون الحاكم من العلماء حسب 14 شرط لم تتوفر في السيف احمد.
بعد مداولات عدة صدرت فتوى من معظم علماء تلك الفترة بالخروج على الإمام الظالم يحي بن حميد الدين الساعي إلى التوريث على حساب جوع الناس وفقرهم ونفذ الشيخ على ناصر القردعي الفتوى وتم اغتيال الإمام عام 1948م وتولي الحكم على بن عبدالله الوزير نائب الإمام الذي توفرت فيه الشروط لكن السيف (أحمد ياجناه) لم يستسلم وحمل قميص عثمان للثأر لأبية والتف ' على صنعاء بمعونة مقاتلين من بعض قبائل حجة وحاشد وصعدة، ودخل صنعاء وأعدم كل من انقلب على أبيه، ونهبت مدينة صنعاء واستبيحت للقبائل الغازية ولم تسلم حتى المساجد من النهب والسلب وبعدها تولى السيف أحمد الإمامة ولقب نفسه بالناصر لدين الله.
جمع الإمام احمد بن يحي حميد الدين حوله مشائخ القبائل وظل يضرب قبيلة بأخرى وهو ما كثر الأعداء حوله وكر 'ه أخوته به خاصة أنه سار يسعى لتوريث نجله الأكبر محمد البدر الحكم رغم وجود من هو أقوى منه داخل الأسرة المتوكلية الحاكمة التي نفذت انقلاب سلمي على حكم الطاغية أحمد في عام 1955م بمباركة قيادات الجيش لكنه فشل بعد شراء أحمد ذمم بعض القادة والمشايخ وقام بإعدام ثلاثة من إخوته وقائد الجيش حينها أحمد الثلايا الذي قال وقت إعدامه عبارته الشهيرة: «شعب أردت له الحياة وأراد لي الموت».
بعد حركة 1955م الفاشلة أعلن الإمام أحمد رسمياً نجله الضعيف محمد البدر ولي للعهد واستسلم للأمراض والمكايدات السياسية، وقامت الثورات العربية الجمهورية في أكثر من قطر عربي فأحس بالخطر وحاول أن يتقرب إلى زعيم الثورات العربية الرئيس المصري جمال عبد الناصر لكن الأخير ظل يرى فيه وفي حكمه رجعية وكهنوتا وتخلفا.
ومع رحيل الإمام في 19 سبتمبر 1962م وجد مجموعة من ضباط الجيش الأحرار الفرصة سانحة لقيام انقلاب عسكري عاجل ضد حكم نجله محمد البدر الذي كان حينها يستقبل التعازي بوفاة والدة، والتهاني بتنصيبه إماماً على اليمن، وفي عشية ليلة 26 سبتمبر لعام 1962م قام الضباط الأحرار بقصف قصر الإمام البدر ومحاصرة منافذ صنعاء ولاح في الأفق بوادر انقلاب عسكري سرعان ما أعلن الزعيم جمال عبدالناصر تشجيعه له ونصب قائد قوات حرس الإمام المشير عبدالله السلال رئيساً لأول جمهورية يمنية في التاريخ وأعلن في أول خطاب جمهوري له عبر إذاعة صنعاء أهداف الثورة الستة وفي مقدمتها محاربة الاستعمار وطردة وإعادة توحيد الأراضي اليمنية والقضاء على الرجعية والتخلف والكهنوتية والقضاء على الفقر والأمية.
كما وعد الزعيم السلال في خطابه «الأول» كل أسر شهداء الثورات ضد الإمامة بالإنصاف والتكريم، وعلى رأسهم شهداء الزرانيق وحاشد وغيرهم غير أن كل الوعود التي وُجهت إلى الزرانيق ظلت في مهب الريح ولم ينفذ منها شيء يُذكر وتم نهب أراضيهم التي أغتصبها الإمام كرهينة كي لا يثوروا ثانية، وحولت إلى أراضي دولة، حتى الودائع والبصائر التي نقلت إلى دار الحكم (البشائر) بصنعاء لم تعد إليهم وتم تهميشهم من كل المناصب القيادية في الدولة لأن الإمام جعل منهم فرق حراسة له بعد أن أعجب بقوتهم وشدة وفائهم لوعودهم وخاصة أثناء الحروب وهو ما انعكس سلباً على القادة الجمهوريين.
أسلحة الزرانيق
إن الزرانيق كسائر قبائل اليمن مولعون بالأسلحة الجارحة «البيضاء» والقادحة «النارية» فقليل منهم يكتفي بحمل السيوف والحراب، ولا يخلو أحدهم من وضع مدية عريضة النصل قاطعة الشباة في منطقته، وبندقية في يده ويوجهون أشد اهتمامهم لبنادقهم ومداهم، فيصقلونها ويوالون تنظيفها ويزينونها بالحلي الذهبية والفضية، وإن كثيراً منهم ليبخل على زوجته وعلى نفسه بالحلي ويؤثر بها سلاحه وخصوصاً بندقيته التي لا تفارقه حتى في ضجعة النوم.
من أين تأتي البنادق للزرانيق؟
كثر استعمال الأسلحة النارية بين الزرانيق وسواهم من القبائل اليمانية وذلك لرخص هذه البنادق في الأسعار، ولسهولة استيرادها من جيبوتي ومصوع ومن عدن، حيث تأسست في هذه المدن شركات لبيع السلاح إلى القبائل العربية بأرخص الأثمان، وهذه الأسلحة هي من أنواع الساقط استعماله في الجيوش الأوروبية، وكانت الحكومات ذات المآرب السياسية في القطر اليماني تغمض عيناً عن أعمال هذه الشركات، بل تحبذ مجهودها، لأن في ذلك تقوية للروح اليمانية الثائرة في غالب الأحيان على السلطة التركية، ولكن كانت حيرة هذه الحكومات شديدة عندما شاهدت أن أكثر هذه البنادق وجهت أفواهها ضدها في الحرب العامة وبعدها.
وعدا ذلك قد تركت السلطة العثمانية مقداراً عظيماً من البنادق والمؤن الحربية حتى المدافع في أثناء الثورات الداخلية في اليمن وبعد الهدنة.
أما الآن فالحكومات ذات المصالح في البحر الأحمر والشواطئ اليمانية تشدد النكير والمراقبة في أمر تهريب الأسلحة إلى القطر اليماني، لأن ما جاز لعذر زال الجواز بزواله.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال