عندما يحرس الذئب الغنم !!
فضل الكهالي
تفقد أية سلطة هيبتها عندما تقوم بابتزاز كوادر البلد، واعتبار المعارضين لها فوائض وزوائد يجب التخلص منها، وبالتالي خلق جمود إداري اقتصادي، علاوة على الجمود السّياسي والعسكري، بدلاً من تأمينهم وتلمّس هموم الناس من خلالهم، بحكم أنهم يُعدّون حلقة الوصل بين الدّولة والمواطن، فتدهور أوضاعهم يعكس تدهور النُظم المجتمعية ككلّ، وخلق فجوة وشتات مجتمعي. وهذا ما تريده الذئاب، فالذئب إنما يأكل الشّاردة من الغنم، وكل همّه ينحصر في جعلها تتسلل من القطيع واحدة تلو أخرى. ومن يرى في الناس خرافاً هو الأكثر حرصاً على ملء جعبته بالسّكاكين.
فمن يثق في نفسه لا يسعى إلى تغطيه الفشل بتدمير القوة الوظيفية لمُجرّد أنها لا تتوافق مع خططه وبرامجه. وأية محاولات خجولة للدفاع عن رمزية الخطط التعبوية والدورات الثقافية التي يقوم بها من يطلقون على أنفسهم جماعة "أنصار الله" ليست سوى محاولات لتمزيق الوظيفة وفق أهوائها. وعملية مثل هذه لا تتمّ إلا بعد أن يكون الفساد قد بلغ مداه، وطمرت العنصرية مرافق الدّولة بمُبرّر تدمير الخصوم، بعد أن تكون قد جعلت من نفسها الخصمَ والحكَم والقضية، وهذا معناه فصل روح المجتمع عن الجسد.
أمور كهذه تعدّ انعكاساً طبيعياً لأفعال ذلك الخليط غير المتجانس من أولئك الذين لم يتمكّنوا من جعل فضائلهم بترك الرّذائل. فهم يتجاهلون أنهم المخطئون في كلّ ما يثبتون وينفون. الخائفون من حرّية غيرهم هم الذين يخاتلون الشّعب الأعزل حتى تقوى شوكتهم أكثر. بعد ذلك يقايضون حرّيته وكرامته مقابل حياة مُزيَّفة للمواطنين وبِشارات هلامية. وفي نهاية المطاف لا يحصل اليمنيون على حرّية ولا على أمن، فمن يُبرّر لنفسه امتهان وانتقاص الآخرين بحجّة الحفاظ على مصالحه لن يتردد في القيام بأي شيء آخر.
فتخيّلوا معي ردّة فعل موظف يصارع من أجل لقمة العيش ومن أجل أن يكون مثالياً في عمله، ثمّ يأتي من لا يفقه في العمل الفني المهني شيئاً ليفرض عليه إملاءاته، التي يعرف مسبقاً أنه لن يقبل بها إلا مُرغَماً، لأنها لا تمُتّ إلى بيئة العمل المهني أو الإنساني بصلة. وبعد أن يفشلوا في إجباره على التقيّد بها يقومون باتخاذ قرار التخلي عنه بموافقة، وربّما مباركة، من السّلطة التي فشلت في احتوائه. وفوق هذا يتمّ تحميل الموظف المعوز تبعات الفشل الإداري للمتطفلين على الوظيفة، وإلقاء اللوم على عاتق "الغلبانْ" الذي لا قرار له. ومن لا يفقه في الإدارة شيئاً سيقول إن الخلل في الإدارة وفي الأساليب والإجراءات المُتّبعة في مختلف المرافق التي تُعمّم الفشل وتُصدّره إلى غيرها، مع علمهم المسبق أن "الكوادر" تُعدّ أساس أيّ عمل وعموده وذروة سنامه. وطالما أنه أصبح بلا سلطة، فلا يملك حقّ الرد حتى في وقت الأزمات وفي أدنى الحدود التي من المفترض أن توفرها او تسمح بها الإدراة البيروقراطية.
إن القرارات التي صدرت من أجل إذلال الموظف كثيرة، ومنها ما أطلقوا عليه "مدونة السّلوك الوظيفي"، في حين أنها مُدمّرة للسّلوك الوظيفي، والتي أثبتت عجز سلطات صنعاء الإدارية وعدم قدرتها على تحمّل أية مسؤولية من أيّ نوع. ومن المفترض أن تتحمّل كامل المسؤولية منذ البداية، وإلا فعليها ترك الأمر لأهل الخبرة والاختصاص، وليس تحميل الفشل للكادر الوظيفي، الذي يضمّ أصحاب الكفاءات. وفي حال افترضنا أن دور الإداري أشبه بدور الطبيب المعالج، فإنه من المنطقي تغييره في حال فشل، وليس تغيير المرضى أو المصابين.
كلمة "جريمة" هي أقل توصيف يمكن أن نطلقه على إقرار مدونة السّلوك الوظيفي الذي يسعى المُشرّعون من خلاله إلى استعباد وإذلال الذين تحمّلوا مسؤولية الفشل الإداري والاقتصادي الذريع للبلاد وصبروا على تحمل السّذاجات الإدارية، ومرارة العيش دون أن تمنحهم جهات عملهم أيّ مستحقات خلال فترة الحرب الكارثية التي مرّت وما زالت تمرّ بها البلد، وجريمة أكبر من أن يتم التنكيل بأولئك الذين نأوا بأنفسهم عن الانخراط في التدمير الممنهج لمرافق الدولة المختلفة، والذي تتستّر عليه جميع السّلطات (تشريعية، تنفيذية وقضائية) إلى درجة أنها جعلت منها شريكاً فاعلاً فيها.
إن الجُرم الأكبر هو الذي يتم اقترافه في حقّ النظام والقانون، اللذين يُفترَض أن يحفظا للموظف كرامته في الظروف العادية، قبل الاستثنائية منها، ويُجرّما الإجراءات التعسفية ضدّه في السّلم قبل الحرب، لاسيما إذا كانت السّلطة مصدر القرار مُقصّرة في أداء واجباتها وعلى مختلف الأصعدة وعاجزة عن سداد مستحقاته الاعتيادية، التي تعدّ التزاماً قائماً عليها، لا مُبرّر لها للتنصل عن سدادها، وهي تعلم ان الإلتزامات إذا لم يقابلها حقوق تسقط مشروعيتها كالتزامات، وفوق كل ذلك لا تسعى إلى تقديم بدائل تخفّف عن الموظفين غائلة الزّمن وقسوته.
هناك إجراءات تعسّفية جمّة في العديد من المرافق الحكومية تعكس سلوكيات المُتربّعين على قمّة هرمها، واللاعبون الأساسيون فيها ليسوا من خبراء الاقتصاد أو القانون أو الإدارة، بل هم أشخاص طالت قامتهم بوسائل اصطنعها الإعلام، فاعتلوا بعض المناصب الحيوية بالصّدفة، ليُهدروا القانون ويسهموا في إعلاء القوة فوق الحق، وليثبتوا بالدليل القاطع أن الفساد في مناطق نفوذهم قاعدة وليس استثناء.
اليوم، وبعد أن مارست سلطات صنعاء التبجّح الإداري في أبشع صوره، وداست على قانون العمل وتشريعات الخدمة المدنية وغيرها من القوانين المنظمة بالنعال، أصبحت بارعة في تمرير جميع القرارات الهمجية التي يتمّ ابتكارها في حقّ موظفين صودرت حقوقهم المادية والمعنوية لمُجرّد تحفظهم على بعض الإجراءات التعسفية التي تُمارَس في حقّهم.
ولهذا لا غرابة في تحول البيئة الوظيفية في مناطق سيطرة الجماعة إلى مجموعة من البيانات تثبت أن سلطات صنعاء شريك في الفساد ومصدر لعملية التقنين السّلبي الذي أورد البلاد موارد الهالكين، وشرْعَنَ عمليات السّطو على المال العامّ ومضاعفة الجبايات والتستر على المفسدين في الوطن. وإذا كان هناك من يستحقّ المساءلة فإنها سلطات صنعاء، مُصدرة "القرارات العبثية" التي تُلقي بالفشل الإداري على عاتق الموظف، الذي لا قرار له. وهذا دليل قاطع على أن الخلل في الإدارة وفي الأساليب والإجراءات المُتّبَعة في مختلف المرافق التي يُهان فيها الموظف، الذي أصبح اليوم بلا سلطة ولا يملك حقّ الرد حتى وقت الأزمات التي تحلّ بالبلد.
إن من ابرز مظاهر الفشل إغراقُ الشّعب في هذا الكمّ المهول من خطابات الزيف الإعلامية المُستهلَكة والإسهاب في الحديث عن خطط مستقبلية وعوالم هلامية ستُخلق في بلد غارق في فساد وشللية ومناطقية وفئوية لا نظير لها ويعتري مواطنيه الخوف لمُجرّد ذكر أبسط حقوقهم، في وقت يفتقر فيه الموظف إلى أدنى مقومات العيش الكريم على الرّغم من الجبايات المهولة التي تُفرَض عليهم بين فينة وأخرى وبدون وجه حق، في ظلّ تدهور القيمة الوظيفية وتقاليدها وأوضاعها الأخلاقية عموماً وإلقاء الفشل الإداري على عاتق الموظف "الغلبان" الذي تحمّل تبعات الوضع السّياسي والاقتصادي للبلد، وأصبح إما منبوذاً لأنه عارض سياسات الطرف الذي شاءت الأقدار أن يكون ضمن نطاق سيطرتها، أو مقرّباً منه لأنه هادن وجامل وغضّ الطرف عمّا يدور حوله...
فاعتلاء كرسي الإدارة من وجهة نظر بعض قيادات الحوثيين معناه منح الذين نهبوا مدّخرات البلاد الحق في التعزير والتنكيل بكلّ من لم يشاركهم جرمهم، إلى درجة أنهم لم ولن يكفّوا عن تهديداتهم بالمزيد من العقاب والتشكيك في وطنيتهم وولائهم، على الرّغم من أن الخيار الذي اتخذه البعض بتحييد أنفسهم هو الأنسب، من منطلق أنهم يرون أن مقام المرافق التي خدموا فيها رفيع وأكبر من أن تطوله شعارات التمييز العنصري والمذهبي في ظلّ التدهور المتواصل وتساقط القيم الوظيفية كتساقط أوراق الشّجر في الخريف.
إن وجود الموظفين الإجباري في المرافق الحكومية شكليّ صوري لأن الإنتاجية صفر، فالدّولة لا تُقدّم للمواطن أية خدمات.. ولعلّ الغرض من الوجود هو إيهامُ المجتمع الدّولي بأنّ هناك مظاهر للدّولة في المناطق الخاضعة لسيطرة سلطات الحوثيين، التي تستغلّ مطاردة الحكومة الشّرعية في الجنوب لتدعيم مواقفها، وكأنها تقول للعالم إن الموظفين تحت لوائنا وطوع إملاءاتنا، والدليل أن المجتمع الدولي راضٍ تمام الرّضا عن ذلك، حتى في ظلّ احتكار المناصب القيادية في تكتلات أسرية بعينها، وذلك أشبه بانتقال الوظيفة العمومية إلى طور الخصخصة. وكأنّ لسان حال الجماعة يقول إن الناس حظوظ ومقامات وطبقات حتى في الرّواتب والوظائف، وإنكم على أنسابكم تُرزَقون!
لو أن شياطين الإنس والجنّ اجتمعت وقرّرت أن تضع نظاماً للتنكيل بالموظفين وطرقاً ملتوية لترهيب الكادر الوظيفي وتركيعه والسّعي إلى تشريده في الأرض وإفساد الخلق ما استطاعوا أن يضعوا نظاماً مشابها لذلك الذي ابتدعته حكومة صنعاء. فالقائمون على السّلك الوظيفي والعسكري في حكومة صنعاء دمّروا الشّكل والمضمون، بالقول والفعل، وحوّلوا بيئة العمل ومخرجاتها إلى سباق في الفصاحة والبلاغة ومقارنة الفشل بالفشل.. وإذا كان هناك من يستحق المساءلة فإنها قيادة ما يسمى بالمجلس السّياسي وسلطات صنعاء، "مُصدرة القرارات التعسفية، والتي قبلت أن تكون مصدراً لعمليات التقنين السّلبي التي أوردت البلاد موارد الهالكين وشرعنت عمليات السّطو على المال العامّ ومضاعفة الجبايات، وحماية المفسدين، وتكميم أفواه المنتقدين، ومطاردة حتى المدنيين البسطاء لمُجرّد كتابة تغريدة أو نشر موضوع، أو حتى عبارة واحدة تنتقد الوضع القائم والقاتم.
المقال نقلاً عن المصدر اونلاين
التعليقات 0:
تعليقك على المقال