تفاصيل المقال

من رب النار؟

من رب النار؟

مروان الغفوري

مروان الغفوري

 

قدم عبدالله بن عامر، الصحابي المعروف، على أبي بكر برأس البطريق فنهره الخليفة قائلاً "أستِنانٌ بفارس والروم؟ لا يُحمل إليّ رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر" كما في المغني لابن قُدامة [1] . غير أن أبا بكر نفسه سيأمر بإحراق خصمه الفُجاءة في مصلى المدينة في حضور الناس. ندم أبو بكر على صنيعه ذاك كما يقول كتاب السير. الفجاءة، القتيل، كان قد طلب من الخليفة رجالاً وسلاحاً ليواجه بهما القبائل المرتدة، ثم أخذ كل ذلك لنفسه وذهب يقاتل لفرض سلطانه على جانب من الجزيرة. يصف ابن كثير نهاية الفجاءة قائلاً: فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه – أي أبو بكر- وهو مقموط [2].

 

التردد في الموقف من إحراق الأعداء عرفه النبي نفسه أوّل الأمر كما يروي البخاري. خاطب سريّة من مقاتليه، قال لهم: إن وجدتم فلاناً وفلاناً – لرجلين من قريش سمّاهما- فأحرقوهما بالنّار [3] . عاد النبي إلى السرية قبل انطلاقها ليلغي قراره الأوّل مستدركاً "إن النار لا يعذّب بها إلا الله، فإن وجدتموها فاقتلوهما". صار الموقف الأخير إلى حكم نهائي يمنع إحراق من يقع في الأسر من الأعداء. وفيما يبدو فإن هذا التشريع الذي يرويه البخاري لم يبلغ أسماع كبار الصحابة، أو أنه بلغهم كما لو كان حديثاً في فضائل الأمور.

الأعراب الذين انقلبوا على دولة أبي بكر عمدوا إلى التنكيل بولاته، وبالمسلمين في نطاقهم. من أفعال التنكيل التي قاموا بها إضرام النار في أجساد المسلمين الأحياء. كانت أوامر الحاكم الجديد، أبي بكر، إلى قادته بمعاملة أعدائهم بالمثل، ولم يستثنِ فعلاً. فشهدت الجزيرة مواجهات مسلحة انتهت بأن أشعل المسلمون النار في أجساد بعض الأسرى. قادت تلك الممارسات، وقد بلغ صداها العاصمة، إلى مواجهة أخلاقية بين أبي بكر وعُمر. كان الأخير قاطعاً في موقفه المناهض لإحراق الأسرى، وكان الأوّل متردّداً ومتأوّلاً.  

 

باستثناء عليّ بن أبي طالب الذي بالغ في إحراق أسراه دون تلكؤ فإن الموقف من تلك المسألة بقي إشكاليّاً داخل المجتمع المسلم. يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء [4] عن هشام بن عروة عن أبيه، قال:كان في بني سليم ردة، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر، ثم أحرقهم. فقال عمر لأبي بكر: أتدع رجلاً يعذب بعذاب الله؟ قال: والله لا أشيم – أي أغمد- سيفاً سله الله على عدوه. لا يذكر التاريخ حوادث إحراق للأسرى في عهد عمر وعثمان، غير أن الممارسة تلك ستنتعش مجدّداً في زمن علي حتى اليوم الأخير من حياته. تمثّل الطريقة التي قتل بها آلُ أبي طالب عبدَ الرحمن ملجم خيرَ شاهد على رؤية الأب القتيل لمسألتي الحق والعدل، وموقفه الأخلاقي تجاه خصومه. إذ بادر الأبناء إلى لسان ابن ملجم فقطعوه، ثم سملوا عينيه، بتروا ساقيه ورجليه، وأشعلوا النار بما بقي من جسده [5]. 

 

بقيت تلك الممارسات حيّة في أعقاب آل أبي طالب حتى الأزمنة الحديثة. في اليمن، حيث ازدهر فرعٌ شديد الوحشية من تلك السلالة، يعمد آل البيت إلى تفجير منازل خصومهم في احتفالات كرنفالية تهتف للإله ونبيّه. في أماكن عديدة في شمال اليمن فجر آل البيت منازل خصومهم بمن فيها من النساء والأطفال. وهاجموا خصومهم بالصواريخ ما إن اصطفوا لأداء صلاة الجمعة. للعنف الهاشمي جذور كوفية قديمة، تصدر كلها عن رؤية المؤسس الأخلاقية للعالم، وللآخر. يعتقد آل البيت، على مرّ التاريخ، أنهم يملكون الإسلام. يتصرّفون في التركة وفقاً لما يستجد، وهم على كل حال يملكون تصوراً للإسلام مفرغ من الأخلاق. أن يكون الرجلُ من آل البيت لهو الإبدال الشامل للمسألة الأخلاقية. الأمر الذي يعفيه، بصورة نهائية، من أي التزام مبدئي تجاه المسائل التي يلاقيها في طريقه سلماً وحرباً. 

 

مارست السلالة المعروفة باسم آل البيت كل ألوان الوحشية بحق المجتمعات المسلمة التي تلكأت في موالاتها، أو لم تخرج معها في معاركها لاسترداد الحكم. وانفردت النسخة اليمنية من الإسلام الهاشمي بتدمير منازل مخالفيهم على مر التاريخ. يدعي الإسلام الهاشمي قرباً وثيقاً ليس وحسب من الرسول، بل من الخالق. كما لو أن الإله قد أفضى إلى الهاشميين بسرّه الخاص وقال لسائر المسلمين أموراً أخرى.  

 

ثمة شواهد تاريخية متراكمة على إحراق القادة المسلمين، في العصور المبكرة، للأسرى. حيال المسألة هذه اختلف فقهاء الأجيال اللاحقة ولم يتخذوا منها موقفاً حاسماً. أما فقهاء آل البيت فقد نزعوا المسألة الأخلاقية من رؤيتهم للعالم، ونصح جعفر الصادق رجلاً بأن قال له: إذا استطعت أن تسقط حائطاً على ناصبيّ فافعل، ولكن لا تدع أحداً يراك. وبالمجمل فقد استسهل الفقهاء الخوض في المسائل الأخلاقية العويصة، وبدت آراؤهم في عديد الأحيان غرائبية. فالإمام مالك، على سبيل المثال، يبيح إحراق بيوت المشركين وقطع أشجارهم ويحرم قتل مواشيهم ونـَحلهم [6]. ما تراه البادية مكسباً معتبراً، كالماشية والنحل، رآه مالك كذلك، وعلى المسلمين الإبقاء عليه لما له من نفع. أمّا الأشجار، وليس لدى البادية الكثير منها، وكذلك العمران، فلتحرق ولتسوّ بها الأرض.

 

يكاد عليّ بن أبي طالب ينفرد بتاريخ حرق الخصوم، سواء أكانوا مسلمين أو سوى ذلك. إذ يمرّ بقوم يأكلون في نهار رمضان فيأمر بحرقهم كما يروي المعتزلي الأشهر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة [7] . وحين يأتونه برجل تنصّر فسوف يقتله في المسجد أمام المصلّين ثم سيأمر بجثته فتحرق، كما في مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي [8] . ويعلم أن رجلاً أتى غلاماً في دبره فيأمر بحرقه [9] . سبق لعليّ أن فرض رؤيته الخاصة تجاه المثليّة مشدّداً على وجوب حرق الفاعل والمفعول به أو إلقائهما من شاهق دون أن يستند في موقفه ذاك إلى نص محكم. عند السنة أيضاً نرى عليّاً وهو يشعل النار في أسراه من المسلمين، وحين يبلغه احتجاج ابن عبّاس يغضب قائلاً "ويح ابن عباس" [10]. تسابق فقهاء عديدون إلى التماس الأعذار لعليّ قائلين إن الحكم النهائي من إحراق الأسرى، الذي علمه ابن عبّاس، لم يكن قد بلغ عليّاً. على أن عليّاً أقدم على فعله ذلك بعد مرور ثلث قرن من وفاة النبي. حين مات النبي كان ابن عبّاس يبلغ ثلاثة عشرة عاماً، وكان سنّ عليّ ثلاثة أضعاف سنّ ابن عمّه. يصدر عليّ عن رؤية تجاه العالم تعفيه من أي التزام أخلاقي في السلم والحرب. فهو يعترف، كما عند ابن كثير، أنه اختار لأبنائه الذكور الثلاثة اسم "حرب"، وأن النبي كان يأتي ويغيّر الاسم. ولم تكن الحرب بالشيء الذي يغويه ما لم تكن قتالاً داخل الأمة، لا على حدودها.

 

يكاد علي بن أبي طالب يكون المُسلم الوحيد الذي عاش بعد النبي ولم يقاتل مشركاً واحداً. قتلاه، وأولئك الأسرى الذين أحرقهم، كانوا جميعهم أعضاء في المجتمع المسلم.    

 

 يروي البلاذري في أنساب الأشراف كيف أشعل ابن مسعدة، أحد قادة علي، النار في حصن تيماء حيث لجأ بعض مناصري معاوية [11] . وإلى اليمن اختار عليٌّ رجلاً يُقال له جارية بن عبدالله، وكان جارية قد أقنع عليّاً بقدرته على القتال حين روى له كيف أحرق الأسرى المستسلمين من أنصار معاوية معاوية في البصرة.

 

يتفق الآباء المؤسسون للفقه الشيعي، مثل الكليني، المجلسي، الكشّي والمفيد، على أن عليّاً أحرق الناس يمنة ويسرة. ويتنازع فقهاء السنة المسألة نفسها، ويجتهدون في التماس العذر لعليّ. ومن الأعذار التي اخترعها فقهاء السنة هي الجهل. الرجل الذي يقدمه التاريخ باباً لمدينة العلم يصبح جاهلاً حين لا يعثر له الفقيه على مخرج من جريمته.

 

عقب انهيار نظام البعث العراقي، 2003، تطورت الأحداث السياسية والأمنية في البلد وبرز عليّ بن أبي طالب في صورتين تقاتل إحداهما الأخرى. اندفع المسلحون الشيعة إلى إحراق خصومهم من السنّة مستندين إلى ما سمعوه وقرأوه في الدرس الشيعي عن سلوك عليّ تجاه الخصوم. لدى السنة، على الجانب الآخر من العراق، مرويّات عن إحراق عليّ لخصومه، وقد انتظروا حتى دارت الأيام إلى جانبهم. تطور الصراع إلى بروز تنظيم الدولة الإسلامية ودخوله المعركة الطائفية. راح التنظيم يحرق خصومه ويتفنن في قتلهم استناداً إلى ما يعرفه عن فقه عليّ وسياسته في الحكم. الصورة التي صعدت من العراق، في العقدين الماضيين، تجاوزت وحشيتها كل ما عرفه البشر حول فنون القتل، وكان عليّ مرجعية لذلك كله. 

 

تلك المعضلة الأخلاقية دفعت فقهاء الطرفين، السنة والشيعة، إلى البراءة من الفعل واتهام الطرف الآخر بالفساد في الأرض. قال الشيعة إن كتب السنة تتحدث عن جواز حرق الخصوم، وقال السنة إن العكس هو الصحيح. وفي كتب الطرفين ما يغني عن اللجاج كله. فالقاسم المشترك بينهما هو رجل من قريش اسمه عليّ، وهو المؤسس الأبرز لفقه النار. 

لم ييد الفقه الإسلامي اهتماماً بالمسألة الأخلاقية خارج منظومة العائلة، وعلاقة الرجل بالمرأة. بقي المسلم يعيش حياة ملتبسة، يفتقر إلى الحساسية الكافية تجاه ما هو أخلاقي وإنساني ظانّاً أن الشعائر التعبدية،كالصلاة والحج، ستغطي ذلك الجانب.

 

نجد في طلائع النصوص الدينية توجيهاً أخلاقياً صارماً فيما يتعلق بشؤون الحرب، هناك حيث المختبر الأكبر لما هو أخلاقي وإنساني. فالنبي يمر في بعض مغازيه ويرى امرأة قتيلة فيسوؤه ما رآه. يدفعه الأمر إلى إصدار قرار بمنع قتل الصبية والنساء، كما يروي الإمام أحمد. في موضع آخر يرسل رجلاً إلى خالد طالباً منه أن لا يقتل امرأة ولا أجيراً، كما يروي أبو داوود. تحوّلُ الإسلام إلى إمبراطورية أفرز فرعاً في العلوم يقال له فقه الجهاد، وهو فنّ لم يتوغل كثيراً في دراسة أخلاق الحرب. قدمت تعليمات النبي حول الحرب بوصفها تعاليم رومانسية يمكن القفز عليها. برز فقهاء مقاصديون يرون الوحشية في الحرب تفسيراً لأمر القرآن "وشرّد بهم من خلفهم"، وأن الآخر لا يمكن أن تردعه سوى النيران التي تُشعل في أجساد أسراه. أما النقاش الفقهي فذهب جلّه إلى مسألة غاية في التفاهة: أيهما من حقّ المسلم، حرق الكافر قبل إلقاء القبض عليه أم بعد ذلك؟

 

بعيداً عن ميدان الحرب، فإن المعضلة الأخلاقية داخل المجتمع المسلم تأخذ هيئة شبكة بالغة التعقيد. فالمسلم، في المجمل، تغنيه عبادته عن الانتباه لحقوق الآخرين، فيصير رمضان إلى موسم لحوادث السير، وتغفر الصلاة للرجل قهره لزوجته، ويعود الرجل من الحج ليفعل ما يشاء ظانّاً أن رحلته إلى الحجاز قد ألغت كل خطاياه. يمجد الفقه الخلاص الفردي من خلال تقديم الرُّشا لله، العبادات والابتهالات. تلك القربى، من خلال المناجاة الطقوسية، تهيء لاوعي المسلم للاكتفاء بتدينه دون الحاجة لأي التزام أخلاقي تجاه العالم.  

 

----

المراجع:

 1- ابن قدامة، المغني، ج.10، صفحة: 565

 2- ابن كثير، التاريخ، ج. 6، صفحة: 319

 3- صحيح البخاري، رقم 3016

 4- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج. 1، صفحة 372

 5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج. 3، ص: 30

 6- ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج. 2، صفحة 340

 7- ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج. 2، صفحة 308

 8- النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج, 18، صفحة 165 

 9- شريف الرضي، تنزيه الأنبياء، صفحة 211

10- سنن أبي داود، حديث: 4351 

11- البلاذري، أنساب الأشراف، ج. 2، صفحة 450.

التعليقات 0:

تعليقك على المقال