“الهوية الإيمانية”، سببٌ آخر لربط الحوثيين بالإمامة
منتدى معد كرب القومي
نادر عبدالرحمن
في العامين الأخيرين، يروج الحوثيين لفكرة غامضة يسمونها “الهوية الإيمانية” بدلاً عن “الهوية الوطنية اليمنية”. ما لا يدركه الحوثيين هو أن هذه الفكرة تحيل بطبيعتها إلى وضع سياسي وأخلاقي (فوق وطني)، فالإيمان لا جغرافيا له ولا عرق ولا كيان.
يمكن أن نستدل على هذا ببساطة من ظاهر المعنى في اللفظين اللذين تتكوَّن منهما عبارة “الهوية الإيمانية”، بغض النظر عن المعنى الضبابي الذي يريده الحوثيون منها.
في حين أن “الهوية الوطنية” محدَّدة دائماً بالمكان والأرض والحدود القانونية المعترَف بها. وبالتالي، هناك فارق سحيق بين المفهومين والصيغتين.
المفهوم العلماني للوطنية الحديثة هو الذي يتضمن فكرة “السيادة” و”الحدود”، ويميِّز “الخارج” عن “الداخل” على أساس الأرض والتاريخ وليس على أساس “الإيمان” و”الكفر”.
ينزع الخطاب الديني إلى أن تكون رسالته عالمية، كونية، لا تنحصر بمحال جغرافي واحد. منطق الدولة الحديثة المستقلة ذات السيادة يختلف عن منطق الأديان.
إذا اتخذنا من القرآن مرجعية سياسية مباشرة في عالم اليوم، فليس من الممكن تجريم عبور الحدود بين مسلمين في صراع على السلطة حيث كل طرف يعتقد أن الحق إلى جانبه. فالدِّين يجرِّم فكرة الحدود نفسها أكثر مما يجرِّم عبورها. نقصد الحدود السياسية التي تفصل المسلمين/ المؤمنين بعضهم عن بعض.
النبي محمد أقرَّ “باذان” الفارسي حاكماً ونائباً في صنعاء للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة. وإذا كان سلوك النبي مرجعية قانونية، وسُنَّة يمكن الأخذ بها اليوم، فهذا يعني أنه يحق لأي شخص مسلم أن يحكم في أي بلد مسلم، ولا أهمية لجنسيته أو قوميته.
بالمنطق الديني القرآني، من السهل تبرير استعانة يمنيين مسلمين بدولة خارجية مسلمة ضد خصم داخلي مسلم.
“الآخر” بالنسبة لـ”الهوية الإيمانية” هو غير المسلم، الغرب المسيحي أو اليهودي مثلاً، ومنطق أصحاب هذه “الهوية” لا يمكنه إدانة تدخل دولة مسلمة في بلد مسلم مجاور، إلّا عن طريق اعتبار الدولة المتدخِّلة عميلة لـ”الآخر” الكافر، أي عن طريق تكفيرها صراحةً أو ضمنياً بوصفها “منافقة”.
بدون هذا التكفير والتخوين لا يستطيع مروجو “الهوية الإيمانية” أن يرفضوا التدخل بحد ذاته باسم السيادة الوطنية المجردة، لأن “الهوية الإيمانية” تقوم على الاعتقاد بأن أرض المسلمين “المؤمنين” واحدة تشمل كوكب الأرض وليس هناك من حد فاصل سوى الحد القائم بين المؤمن وغير المؤمن. فمقولة “الهوية الإيمانية” على وجه العموم مبطنة بتكفير مسبق. والآخر هنا هو غير المؤمن. وهذا ينطبق على دول أو أفراد.
إنّ ما يسميها الحوثيين بـ”الثقافة القرآنية”، لا تصنع حساسية وطنية بل حساسية دينية، وفي الغالب حساسية مذهبية طائفية.
وإذا كنت تجرِّم خصومك باسم “الوطنية الحديثة” و”السيادة”، فإنك في نفس الوقت تقدّم خطاباً ثقافيا صالحاً للإستخدام من قبل خصومك أنفسهم لتسويغ ما يفعلوه باعتباره لا يتناقض مع منطوق الدين بمختلف تفسيراته.
علاوة على ذلك، فإن موضوع “الهوية الإيمانية” يعد من الأشياء الأساسية المشجعة على ربط نسق الخطاب الحوثي بالنسق التاريخي للإمامة الزيدية. وإثبات إمامية الحوثيين يفيدنا في التأكيد على عدم صلاحية “الإمامة” كأداة لتمثيل المشاعر الوطنية، بالعودة إلى ما نعرفه من تاريخ الأئمة.
على المستوى النظري، من سمات الإمامة عدم وضع حد جغرافي لسلطانها، يقول بول دريش: “..وفي حالة أئمة اليمن، لقب كل إمام مكتمل، بأمير المؤمنين، ولم توضع حدود جغرافية لسلطانه”. ولاحظ برنارد هيكل أن الإمامة كان يجري تناولها في الأدبيات الزيدية “بمصطلحات إسلامية عالمية ولم تقدم قط باعتبارها مقصورة على اليمن أو على أتباع المذهب الزيدي.
ويتخذ الإمام لقب “أمير المؤمنين”. وينظر إلى اليمن باعتبارها قاعدة تنتشر منها دعوته إلى العالم الإسلامي”، (الإصلاح الديني في الإسلام، تراث محمد الشوكاني، ص26).
لكن على المستوى العملي، كان الأئمة الزيديين يميلون في سياساتهم إلى العزلة داخل نطاق ضيق من اليمن. لنأخذ على سبيل المثال العزلة التي فرضها الإمام يحيى على محكوميه قبل مئة عام. “وقد طمح الإمام يحيى إلى تبرير سياسة العزلة فأعلن أنه “يدافع عن شعبه ضد الإلحاد والعلوم الوثنية، ويريد أن يتبع الشعب الدين الصحيح حسب اجتهاده”، (إيلينا جولوبوفسكايا، “ثورة 26 سبتمبر في اليمن”، ص22).
والأئمة ما إن يبدأوا حركة صعودهم حتى يتلبَّسهم فجأة ذلك الوجه الأجنبي غير الشخصي، الوجه العنيد “المؤمن” المتفوق، الوجه المتسامي على مجتمعه، الوجه الخاص برجال صغار يطاردون منذ ألف عام قَدَراً نبوئياً هارباً عصياً على الإمساك.
إذ يَحمِل كل واحد منهم فجأة وجهاً غريباً كريهاً يصبغه اليقين بالكفاح في سبيل حُلم امبراطوري “إلهي” قديم منذور للفشل بحكم العادة.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال