الولاية في ميزان اليمنيين: بين قدسية الجمهورية واستبداد الحوثي
فتحي أبو النصر
في قلب الأزمة اليمنية التي تثقل كاهل الشعب، تبرز معضلة ذات جذور تاريخية وعقائدية ترتبط بمفهوم "الإمامة" أو "الولاية" الذي صار يروج له عبد الملك الح وثي وجماعته. هذا المفهوم الذي يستند إلى رؤية مذهبية متطرفة تسعى لتقديم الحوثي كوريث شرعي لحكم اليمن وفقا لنسبه القرشي، الهاشمي، يتنافى مع أسس الدولة الوطنية الحديثة التي قامت على مبدأ المواطنة المتساوية، ويناقض تطلعات الشعب اليمني نحو الحرية والعدالة والمساواة.
الولاية ليست فكرة جديدة في اليمن، بل امتداد لتراث سياسي وديني عاش اليمنيون في ظله لقرون تحت حكم الأئمة من بني قبيلة قريش في أهوال وعذابات. هذا النظام كان يقوم على التقديس المبالغ فيه للأنساب نسل الحسن والحسين أبناء الخليفة الرابع علي بن ابي طالب رضي الله عنه في الدولة الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدلا من الكفاءة، مما عمق الطبقية وأفرز تمييزا ممنهجا ضد غالبية اليمنيين الذين تم تصنيفهم كمواطنين من درجة أدنى.
ومع اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 المجيدة، اعتقد اليمنيون أنهم أسدلوا الستار على هذه الحقبة الأسوأ في تاريخهم إلى الأبد، ليعيشوا في كنف نظام جمهوري يعيد تعريف الهوية الوطنية على أسس المساواة والحرية.
لكن بعودة الحوثيين إلى الواجهة في 2014، تجددت مظاهر الإمامة في ثوب جديد. فقد عمد عبد الملك الحوثي إلى إحياء مفهوم الولاية الذي يبرر سلطته الغاصبة باسم "الحق الإلهي"، مستغلا الدين لتحقيق أهداف سياسية وسلطوية بحتة، رافضا الاندماج في مشروع الجمهورية أو الاعتراف بمرجعياتها السياسية.
يصر الحوثي على تقديم نفسه ليس كقائد سياسي، بل كوصي مقدس، مستندا إلى أصله القرشي ومطالبا اليمنيين بالخضوع التام لحكمه. هذه النظرة الإقصائية تتجاهل الهوية اليمنية العريقة التي تشكلت بشكل حضاري عبر آلاف السنين، وهي هوية تجاوزت الانتماءات الضيقة واحتضنت تنوعا ثقافيا واجتماعيا يعبر عن روح الجمهورية.
وهكذا يعمل الحوثي على إعادة تشكيل الوعي الجمعي لليمنيين بوسائل متعددة، منها المناهج الدراسية التي تكرس فكرة الطاعة العمياء للحاكم والأشخاص من "آل البيت"، وفرض شعارات طائفية تستهدف محو الهوية الجمهورية واستبدالها برؤية مذهبية تعزز نفوذ الجماعة.
اليمنيون اليوم، رغم المعاناة الهائلة من الحروب والفقر والنزوح، يظلون متمسكين بمبادئ الجمهورية التي أسقطت استبداد الإمامة. هذه الجمهورية ليست مجرد نظام حكم، بل تمثل طموح شعب يرفض الوصاية، ويدافع عن كرامته وحقه في تقرير مصيره بعيدا عن الأنساب أو الشعارات الطائفية.
ولقد أثبتت السنوات الماضية أن مشروع الحوثي ليس سوى محاولة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وإحياء استبداد لم يعد مقبولا في عالم اليوم. فالشعب الذي انتفض ضد الإمامة بالأمس لا يزال قادرا على التصدي لمحاولات الحكم بمزاعم إلهية.
على إن رفض جماعة الحوثي لمبدأ "وأمرهم شورى بينهم"، الذي يعد تعليما إلهيا صريحا في القرآن الكريم، يكشف عن تناقض صارخ في خطابهم الديني. فهم يدعون الالتزام بالشريعة، بينما يسعون لتكريس حكم فردي يقوم على التمييز العنصري والاصطفاء السلالي. هذه العنصرية تتجاهل قيم الإسلام الحقيقية التي تدعو إلى العدالة والشورى واحترام إرادة الأمة. إن تفاهة هذا الادعاء تتجلى في محاولتهم تسويغ استبدادهم بمبررات دينية زائفة، بينما يدرك اليمنيون بوعيهم التاريخي والديني أن العدل والمساواة هما الأساس الحقيقي لأي حكم شرعي، وهو ما يفتقر إليه مشروع الح وثي العنصري.
ثم ان الشورى في جوهرها، تعبر عن مبدأ الديمقراطية القائم على تبادل الآراء واحترام إرادة الجماعة في اتخاذ القرارات. إنها تعبير إلهي عن حق الناس في المشاركة بالحكم وإدارة شؤونهم، وهو ما يتعارض تماما مع نهج الحوثيين الاستبدادي. فهم يتجاهلون هذا المبدأ القرآني لصالح ادعاءات عنصرية تمنحهم الحق الحصري في السلطة، متجاهلين أن الشورى هي أساس العدل والمساواة.
ولكن كيف لنا إقناع الحوثيين بأنهم مواطنون كغيرهم من اليمنيين؟! إن هذا يمثل تحديا صعبا، لأن رؤيتهم للهوية الوطنية مشوهة بمفاهيم مذهبية وعنصرية تعزز شعورهم بالتفوق السلالي. هذا التصور المتصلب يجعلهم يرفضون المساواة مع باقي اليمنيين، متجاهلين أن المواطنة تقوم على الانتماء المشترك والحقوق والواجبات المتساوية للجميع.
وللأسف الشديد ، لم يكتفِ الحوثيون برفض مبدأ المواطنة، بل عمقوا الانقسامات في اليمن من خلال إشعال ثارات في كل منطقة وصلوا إليها. أجبروا السكان على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ضد ممارساتهم القمعية، مما أدى إلى انتشار الفوضى وزعزعة النسيج الاجتماعي. هذه السياسات العنيفة تعكس فشلا ذريعا في فهم مفهوم الدولة الحديثة، التي يجب أن تكون مظلة للجميع لا أداة لقهرهم.
أما تعديلهم لقانون الزكاة بفرض "حق الخمس" التمييزي فهو قمة الغرور والعنصرية. هذا الإجراء يحاول تقنين نهب ثروات اليمنيين من نفط وغاز ومعادن وحتى موارد بسيطة كالكري والنيس وملح، لصالح فئة محددة يدعون أحقيتها بحكم النسب. هذا القانون الغبي ليس مجرد ظلم اقتصادي، بل محاولة لفرض نظام طبقي مقيت يتناقض مع روح الإسلام وعدالته.
وعليه فلحل هذا التصلب، وجوب تعزيز الوعي الوطني الذي يربط اليمنيين بتاريخهم المشترك ويذكرهم بأن الفخر الحقيقي يكمن في الانتماء للوطن، وليس لأي سلالة أو مذهب. كما يجب فضح سياسات الحوثيين الظالمة وتسليط الضوء على التناقض بين شعاراتهم الدينية وممارساتهم العنصرية. وكذا التحرك السياسي والدبلوماسي في الداخل والخارج لدعم الهوية الجمهورية هو الحل الوحيد لمواجهة هذا النهج التمييزي، مع استمرار مقاومة الشعب اليمني لهذا المشروع الغريب عن هويته.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال