نهار التاريخ اليمني الواعي لذاته
محمد العلائي
قبل حلول العصر الحديث، لم يكن لكلمة "يمن" مدلول سياسي قانوني محدد.
كانت الكلمة تدل فقط إما على إقليم جغرافي (إقليم اليمن) أو على انتماء نسَبي (الأرومة القحطانية اليمانية) أو على وحدة إدارية (ولاية اليمن) ضمن هذه الامبراطورية الاسلامية أو تلك.
والدول والممالك والسلطنات المحلية التي ظهرت في النطاق الجغرافي اليمني كانت تتسمى حصراً باسم السلالة الحاكمة أو باسم القبيلة المهيمنة في التاريخ القديم.
في عشرينات القرن الماضي، وافق الإمام يحيى على إضافة لفظ "اليمن" في الاسم المركَّب لدولته المستقلة حديثاً عن التُرك: "المملكة المتوكلية اليمنية"، مستجيباً بذلك لوعي وطني كان يتنامى بين الصفوة المتعلمة في شمال اليمن على وقع التطورات في العالم.
والوعي الوطني القائم على الانتساب إلى الأرض لم يأتِ من فراغ، فقد كان اسمها الإداري قبل تولي يحيى الحكم "ولاية اليمن"،
بل إني وجدت مثالاً أبعد زمنياً بكثير -القرن الثامن الهجري- يحضر فيه لفظ اليمن كإسم يطلقه مؤرخ على كيان سياسي سلطاني في عصره.
المؤرخ هو علي بن الحسن الخزرجي المعاصر لبعض سلاطين آل رسول، إذ يسمي في كتابه "العقود اللؤلؤية" دولتهم بـ "المملكة اليمنية".
نقرأ مثلاً وهو يقول "وفي يوم التاسع من الحجة استمر الفقيه الأجل جمال الدين محمد بن عبد الله الريمي في القضاء الأكبر في المملكة اليمنية وكان يومئذ أوحد أهل العصر علماً وأحسنهم فهماً"، أو "وفي النصف من شهر شعبان برز مرسوم السلطان باستمرار القاضي زكى الدين ابي بكر بن يحيى بن ابى بكر بن احمد بن موسى بن عجيل في القضاء الاكبر فى اقطار المملكة اليمنية ولقبه القاضي زكى الدين"، (الخزرجي، العقود اللؤلؤية، الجزء الثاني، ص185 و216).
تمتاز كلمة "يمن" كإسم عَلَم للدولة بصلاحيتها كإطار توحيدي لبلد شديد التناقض، والتنوع، فهي لا تخص أسرة ولا قبيلة ولا منطقة ولا جهة، فهي ليست من مخلفات ورواسب تاريخ سابق متنازع عليه، وبالتالي لا يمكن أن تنشأ عنها حساسية من أي نوع، وفي وسعنا إدراج التواريخ القديمة والحديثة تحتها بسهولة وبلا حذر.
وهذا لا يقلل من شأن الدول والممالك التي تسمّت بأسماء مؤسسيها، قديماً أو في العصر الحديث، طالما كان للأمر دواعي ملحة.
أما الحد المعياري للرقعة الجغرافية التي من المفترض أن يدل عليها اسم "يمن"، فهو من الأمور الإشكالية التي يندر الاتفاق حولها، وخصوصاً بالنسبة إلى الحالمين الذين لا يقبلون اليمن بحدوده الحالية.
فأين يبدأ اليمن بالضبط وأين ينتهي؟ وما هو مبدأ التحديد؟
سيقول بعضهم إن علينا العودة إلى جغرافية أول كيان سياسي موحد في تاريخ اليمن، يمن كرب إل وتر في القرن السابع قبل الميلاد، أو يمن شمر يهرعش في القرن الثالث بعد الميلاد، والتعامل معها كحد معياري لما نعنيه بكلمة "يمن".
حسناً.. لكن هل بوسعنا، من خلال النقوش، رسم خريطة واضحة لتلك الدولة بوصفها السابقة التاريخية المؤسسة للمجال اليمني؟ لا ندري.
المؤكد أن كل موقع في النطاق الجغرافي الذي يتفق الأغلبية اليوم على تسميته بـ "اليمن" يتمتع في كتب التاريخ بحقوق أدبية متساوية مع المواقع الأخرى في حيازة الإسم والانتساب إليه وتمثيله وكأنه شيء يخصه دون أن ينكر على بقية الأجزاء حقوقها فيه.
ليس هناك موقع أكثر يمنية من غيره. عدا أن اليمن ككيان سياسي موحَّد، بشكل متصل زماناً ومكاناً، وتحت أي إسم كان، غير موجود. [نقصد غير موجود في التاريخ بصفة مستمرة].
أما في الفكر والوجدان، فلم ينقطع عن الحضور في مسار التاريخ المسجَّل، حتى أن في استطاعة المرء أن يرصد بدايات مبكرة لآداب -منذ امرؤ القيس- تعبِّر عن الوعي بـ الذات اليمنية المترحلة غالباً كـ نَسَب قبائلي أو جهوي جغرافي (جنوب شبه الجزيرة العربية)، رغم أن تلك الآداب لا تعدو أن تكون شذرات موزعة في خط الزمن منفصلة بفجوات معتمة وانقطاعات.
مملكة حِميَر، هي آخر وأقوى ممالك اليمن القديم، وقد انهارت بعد احتضار طويل، ما أفضى إلى تجزؤ داخلي وهوان واحتراب.
غداة ظهور النبي محمد، كان اليمنيون قبائل وشعوباً متفرقة. ذهب أهل اليمن لاعتناق الدين الجديد وفوداً وزعامات وأمراء.
لم يكن هناك فتح إسلامي لليمن. نقرأ عن فتح العراق والشام وفارس ومصر. وحتى مكة، الموطن الأصلي للنبي والمهد الأول لرسالته، خضعت للفتح الإسلامي. في حين أن اليمن لم يُفتَح، لأنه كان مفتوحاً، بلا كيان ولا قرار مشترَك. لم يكن محكوماً من دولة مركزية واحدة.
أما "حروب الردة"، وكما يدل اسمها، فقد دارت في أرض سبق دخولها في الدين الجديد والدولة الجديدة طوعاً دون فتح.
ثم كان للتفاعل الكبير بين القبائل العربية من شطري شبه الجزيرة العربية، في فضاء الدولة الإسلامية، أهميته في تحديد اليمني جغرافياً وقبائلياً بوصفه الرجل الذي ينحدر من الجنوب وينتسب إلى الجد الأسطوري (قحطان)، في مقابل العربي الشمالي الذي ينتسب إلى الجد الأسطوري (عدنان)، وأحياناً يحال نسب عرب الشمال إلى قيس.
وفي مراحل من التاريخ الإسلامي، وفي مناطق مختلفة من دولة الخلافة، شاع الانقسام الحزبي بين القيسية واليمانية.
أوافق على فرضية الدكتور أحمد السري والتي مفادها "أن شيوع اسم اليمن الذي نستعمله اليوم قد وفد من الشمال بحكم قوة قريش وحضورها على المسرح التاريخي وانتشار لهجتها التي صارت منها العربية القرآنية بعدئذ". على أن التوحيد السياسي الحديث لليمن عام 1990م يمتاز بكونه النتيجة الثمينة لعمل جماعي متدرج وقفت خلفه إرادة وطنية منظمة وواعية لنفسها. فقد كانت العملية التوحيدية الجديدة موضوعاً للتأمل والنظر بحيث اكتسب الشعب من خلال الفكر والوجدان حسَّاً مشتركاً بوحدة التكوين والمصير.
أي أن "الروح اليمنية"، إذا جاز لنا استعارة هذا المفهوم من هيجل، بدأت لأول مرة تفكر في ذاتها وفي تحققها الأخلاقي الموضوعي من خلال الدولة. كان ذلك بحقّ هو "نهار التاريخ الواعي لذاته"، بتعبير هيجل نفسه.
ببد أن نهارنا لم يدم طويلاً.
التعليقات 0:
تعليقك على المقال