أقلام في مسيرة النضال 10.. عادل الأحمدي.. نضال بروح سبتمبر
ثابت الأحمدي
مطلعَ التسعينيّاتِ كان كلٌ من: حارث الشوكاني ونصر طه مصطفى، ومحمد زبارة يحذرون من الإمامةِ ومشروعها الخطير القادم. أتذكرُ حينها ونحنُ نتابع صحف تلك الفترة أنّ الجدلَ المحتدم لم يكن الإمامة بطبيعةِ الحال؛ بل الوحدة، وتحالف الحزبين الحاكمين يومها "المؤتمر والاشتراكي"، ثم الفترة الانتقاليّة، وسلسلة الاغتيالات التي ترافقت معها، والفيدرالية، وخطابات الشيخ الزنداني، وكتابات عمر الجاوي وجار الله عمر وعبدالله سعد، ثم انتخابات 93م وما تبعها.. إلخ.
هذه أبرزُ مفرداتِ الخطاب الإعلامي والسّياسي في تلك الفترة، وبين هذا الضّجيج كله كان هؤلاء الأساتذة يحذرون من الإمامةِ بقوة؛ إلا أنّ خطابهم هذا كان أضيعَ من سراجٍ في شمس، كما يُقال. وربما اتهمهم أساتذتُهم وأقرانُهم بالغُلو والشّطط والخيالِ الجامح، وقليلا قليلا تراجعَ هذا الصوت، أو حُكم عليه بالتراجع والخُفوت؛ لأسبابٍ كثيرة، منها "جهل الكبار" بالأولويّات، وبلادتهم تجاه الخطر الذي يتسللُ بهدوء.
الشاعر والمبدع
نتوقفُ هنا عند الينابيع الأولى التي تشكلت منها موهبة الشّاعر والأديب عادل الأحمدي في بواكيرها الأولى، زمانا ومكانا، وكيف تطورت هذه الموهبة حتى غدا علَمًا شعريًا، بل وأدبيًا، تتبازغ ملامح هذا الإبداع حتى في المقالةِ السياسيّةِ ذات المنحى التجريدي البحت في تركيبتها اللغوية؛ لأننا حين نقرأ لعادل السّياسي نكتشفُ بين ثنايا هذه المقالةِ "عادل الأديب". نلمحُ الصُّورة الشعريّة بتراكيبها الفنيّة، نجد المجاز بتحليقاته، يستوقفنا الرمز بتكثيفاته، نلحظ المعاني بتأويلاتها، ونلمح البديع بزخارفه الخارجيّة، وربما تهامسَ الجرسُ الموسيقي في التراكيب النثريّةِ حتى وهو يكتبُ بتلقائيةِ السّياسي الذي لا يقفُ عند جمالِ المبنى بقدر ما يغوصُ بين تلافيف المعنى. فليست اللغة لدى السّياسي مطلوبة لذاتها؛ لأنه يتعاملُ معها كوسيلةٍ لإيصال المعنى، لا أكثر، على العكس من الأديب الذي يجعلُ من اللغة هدفًا بذاتها.
من ناحيةٍ ثانية، كما يستبدُّ الأدبُ فارضًا نفسه في الأنساقِ السياسيّة التي يتعاطاها أديبُنا وشاعرُنا عادل، أيضا تسفرُ السياسة عن وجهها في إبداعاته الأدبيّة، وربما تساءلَ سائل: أهو أديبٌ تسيّس؟ أم سياسيٌ تأدب؟ والواقع أنه خليطٌ من هذا وذاك؛ لأنّ موسوعيّته الثقافيّة، وثراءه المعرفي قد نأَيَا به أن يتبدى في لونٍ واحد. يبدو أنه من أنصارِ نظريّة "الفن للمجتمع" عكس نظريّة "الفن للفن" التي أخذت جدلا واسعًا في الصُّحف القاهريّة في أربعينيّات القرن الماضي. يقول عادل الأحمدي: "العنادُ في القضايا المبدئيّة هو الشعرُ بذاته. يشعرك بالفروسية. وأعتقد أنّ المقالَ السياسي العنيد أقوى من القصيدةِ المهزومة، ولا شيءَ يعلو على الشّعر كفن، فهو فنُّ الفنون؛ لكن الشاعر بلا قضيّة كالأغنيةِ بلا صوت".
ويضيف: نحن أمام تحدٍّ وطنيٍ سريعِ الإيقاع، يحتاج الى شرح؛ لأنّ الشرَّ يعتمد على التضليل. إسهامي ككاتب أحسبه أكثر أثرًا من إسهامي كشاعر، وموقنٌ أنّ قصيدة من شاعرٍ مُجيد تأثيرها أقوى من خمسة كتب، ولستُ أنا ذلك الشاعر. قصيدة: "صرخة الى النائمين" لأبي الأحرار محمد محمود الزبيري كمثالٍ على ما أقصده. من تلك القصيدة عرفتُ البرنامجَ النفسي للإمامة تمامًا.
مثلُ هذا الكلام تقريبًا قاله الزبيري سابقًا: "كنتُ أحسُّ إحساسًا أسطوريًا بأني قادرٌ بالأدبِ وحده على أن أقوضَ ألفَ عامٍ من الفساد والظلم والطغيان. لستُ أدري أذلك من تخريفِ الخيالِ الشاعري الجامح؟ أم هو ومضة من ومضاتِ الذخر الصُّوفي السّجين في أعماقي ".
والواقعُ أنّ هذه طبيعة المثقف المنتمي، أو قل الأديب المحارب على أكثر من جبهة، فهو يُحاربُ بالأدب، كما ينافح بالسّياسة، وهو ما نجده لدى كبار الشُّعراء والأدباء الرواد في القرن العشرين، محليا وعربيا. ألم يكتب محمد مهدي الجواهري العمود السّياسي في أربعينيّات وخمسينيّات القرنِ الماضي، منافحًا ومكافحًا، جنبا إلى جنب مع رفيقه "ساطع الحُصري" السّياسي والمُنظّر العُروبي الشّهير؟
إنّ الجواهري الكاتب السّياسي هو نفسُه الجواهري الأديب الذي ألهبَ الشارع العراقي بقصائده الثوريّة، ومنها واحدة من أشهر قصائده:
أتعلمُ أم أنت لا تعلم
بأنّ جراح الضحايا فمُ؟
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة
أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي
مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم
وأنَ البَغِيَّ الذي يدعي
من المجد ما لم تَحُزْ مريم
ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ
وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجم
ألم يتبدّ الزبيريُّ كاتبًا سياسيًا في صحيفةِ صوتِ اليمن، وبعض الصُّحف القاهريّة في أربعينيّات وخمسينيّات القرن الماضي؟
إنّ الزبيريَّ الكاتبَ السياسي هو نفسُه الزبيري الشاعر الذي مثلت قصائده آنذاك وقودًا ثوريًا، كما لا تزالُ إلى اليوم تمثلُ وجدانًا وطنيًا خلّاقا، وخاصّة للناشئة والشّباب؛ بل إنه الروائي الذي نسج "مأساة واق الواق". وإن لم تتوافر فيها شروطُ الرواية التي نلمحها في رواياتِ نجيب محفوظ، وخاصّة في "أولاد حارتنا" أو "الكرنك"، أو في "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، أو في "دموع على سفوح المجد" لعماد زكي؛ إنما هذه طبيعةُ المحارب المخلص، يستغلُّ كل إمكانياته، لتوظيفها في المعركة؛ بل لقد قال البردوني عن الزبيري: إنّ صلاته كانت نضالا؛ لأنه كان يتعمدُ في صلاته الجهريّة بالناسِ قراءة الآياتِ القرآنيّة التي تحثُّ الناسَ على النهوضِ ومقاومةِ الطغيان.
أمّا عن شاعرنا عادل فيقول نفسه في هذا: "أظنني كنت لا شيءَ بدون هذه القضية التي جعلتني أعرف معنى اليمن والدين وأيلول، وأتذوقُ كلَّ بيتٍ شعريٍّ قاله الأحرارُ بشكل مختلف". ا. هـ.
الشعرُ قرينُ النضال ولزيمُ الثورات، ولم تخل قضيّة كبيرة من الشّعر عبر التاريخ، وهذا ما تشكل تلقائيًا في ذهنيّة الشاعرِ عادل الأحمدي الذي جعلَ من الشّعر أحدَ أدواته؛ بل وأداةً فعالة في المناوءةِ والمواجهة، لهذا نجد فيه "متلازمة الجاحظ" الاستطراديّة التي عُرف بها. فعادل تارة يكتبُ شعرًا، وفي نفس اللحظة ينتقلُ إلى السّياسة، كاتب مقالة نثريّة؛ حاشدًا كل أدواته في معركته التي يعيشُها بكل صدقٍ وانتماء.
عادل والصحافة
في العام 2004م وما بعده، ومع بداية أحداثِ مران مع الكيان الإمامي البغيضِ انبرى شاعرٌ وأديبٌ بجسمٍ نحيل وعينين واسعتين، اسمه عادل الأحمدي كالنذير العريان، رافعًا عقيرته، محذرًا من أكبر كارثة محتملة؛ أو بالأصح محققة، هي في نظره حقيقة ماثلة للعيان، ومسألة انفجارها مسألة وقت فقط، فيما هي في نظر من نظنهم سياسيين كبارًا شطحات ومبالغات.
كان البعضُ يقول: إنّ الخيالَ الشاعري الذي يتميزُ به عادل الأحمدي قد انعكسَ عليه حتى في السياسة، فهو ينظر إلى أحداثِ السياسةِ بعين الشاعر لا بعين السياسي، رغم أنه لا يزالُ يومها في ألف باء السياسة، كما كان أيضا في بدايةِ مشواره الصّحفي الذي دخله من بوابةِ الأدبِ والشعر، حتى اشتُهر صحفيًا أكثر منه أديبًا. وأظن هذه حالة ملازمة لزملاء آخرين؛ لأن الصَّحافة تستطيع أن تحفظَ لحياتك ما تيسر من الخبز والماء، فيما الأدبُ وحده لا يستطيع ذلك، وخاصّة في اليمن..!
قبل تلك الفترة كان الأحمدي عادل قد لمع نجمُه أديبًا من خلال مجلة نوافذ التي كان يرأسُها السياسي المثقف نصر طه مصطفى؛ أمّا نجوميتُه الصّحفيّة فلم تسطع إلا من صحيفة الثقافيّة، وتحديدًا من "صفحتيه" التي كان يحررهما تحت عنوان "ما يسطرون". وأستطيع القول أنها صحيفة مستقلة داخل الصّحيفة نفسها. لا ننسى تقديم الشكر هنا لقنّاصِ المواهب وراعيها سمير اليوسفي، رئيس تحرير صحيفة الثقافيّة يومها.
"ما يسطرون" عملٌ استثنائيٌّ نادر، بجهود استثنائية أندر، لمبدعٍ استثنائيٍ خلاق، كان العديدُ من متابعي الثقافيّة يبدؤون قراءة الصّحيفة من منتصفها..!
عادل والإمامة
وعودة ــ بعد هذا الاستطراد ــ إلى عادل المناضل الذي كان أول من رأى من المثقفين الشباب يومها آذان الجمل، أو قل: آذان الشيطان، فمثّـل امتدادًا لأصواتِ أصدقائه الأساتذة المذكورين آنفا؛ إنما بصوتٍ أعلى، وبأول كتاب صدر في منتصف سنواتِ الحرب عن الإمامة "الزهر والحجر" في العام 2006م، وقد مثل لنا كتابُ الأخ عادل مرجعيّة تاريخيّة وثقافيّة في تلك الفترة، والذي طلبه مني عشراتُ المهتمين، متوهمين أني أنا المؤلف، لتشابه اللقب، وربما جرس الصوت الموسيقي للاسمين مع اللقب.!! وقد تم تأليف هذا الكتاب في ظرفٍ سياسي استثنائي، شهد مماحكاتٍ سياسيّة قصيرة النظر بين السلطة والمعارضة آنذاك، وكان انتقاد الكيان الإمامي، ممثلا في نسختهم الجديدة "الحوثية" حينها في نظر البعض ضربًا من المبالغةِ والتعصب، خاصة وقد تعمّد الحوثيون أن يسوّقوا أنفسهم عبر ناشطيهم بأنهم مظلومون من النظام القائم، وربما كان بعضُ السياسيين والمثقفين يُظهر التعاطف معهم على خطورتهم، جهلا منهم بذلك، وربما سعيًا لنيل الحظوة لدى هذا الكيان البغيض، ولئلا تدمغه آلتُهم الإعلامية بالتعصب والتحيز. وقد لاقى مؤلفه بعضَ العتب والانتقاد؛ لكن الواقع أثبت ــ وبعد سنوات قليلة فقط ــ أن نظرة هذا المؤلف كانت أكثر عُمقًا واستشعارًا للخطر من وقت مبكر. أي أنّ ما تم طرحه كان جرس إنذار مبكر، ولكن لسلطةٍ ومعارضَةٍ صمّاء، عمياء، لم ترَ أبعدَ من أرنبةِ أنفها، وفي المحصلة النهائيّة فقد دفعتا الثمن غاليًا، نتيجة لهذا العَته الذي وقعتا فيه.
ومن يومها وإلى اليوم لم يتوقف قلمُه أو لسانُه لحظة واحدة عن مقارعة الإمامة، في منصّات التواصل الاجتماعي، وعلى المواقع الإلكترونية، والقنوات الفضائية، ولا يزال صامدًا صمود غيمان وبَعدان وجُبلان بروحٍ ثورية، والأجمل بفكر مستنير يعي تمامًا ما هي اليمن؟، وما هي الإمامة؟، ويُمثل مرجعية تاريخية وفكريّة في هذا الجانب.
على أيةِ حال.. أنتجَ عادل الأحمدي مئاتِ الأعمال عن الإمامةِ ما بين مقالةٍ وقصيدةٍ ومنشورٍ ومقابلاتٍ إعلاميّة وتصريحاتٍ إذاعيّة، أغلبُها منشورٌ على الموقع التابع له "نشوان نيوز" الذي أسّسه في العام 2008م، وكان من أوائلِ المواقعِ اليمنيّة.
ولم يكتفِ بذلك فحسب؛ بل عملَ على طباعةِ ونشرِ بعضِ المؤلفاتِ البحثيّة المتعلقةِ بالإمامة، ومشاركتها في بعضِ معارضِ الكتبِ المحليّة.
نعم.. إنه ذلك الشّاب المستنيرُ القادمُ من ريفِ إب، بروح اليماني الأصيل، وقد صار اليومَ سياسيًا ومفكرًا وإعلاميًا؛ وإن شئت قل: محاربًا عتيدًا، لم يقيده انتماءٌ حزبي، أو تعوقه حساباتُ المناصب السياسيّة، فقد استبرأ من لوثةِ الحزبيّة بضيقِ أفُقِها، ومن المناصبِ السياسيّةِ بسعةِ تبريراتها؛ منتميًا لليمنِ أرضًا، ولسبتمبرَ فكرًا، وللجمهوريةِ روحًا، وأنعم وأكرم به من انتماء..!
التعليقات 0:
تعليقك على المقال