الإرهاب الحوثي.. سيرة ومسيرة
ثابت الأحمدي
الحلقة الأولى: الإرهاب في فكر الأئمة الأوائل
ثابت الأحمدي
تمثلُ بعضُ أشعار المؤسس الأول للكيان الإمامي البغيض، يحيى حسين الرسي الموجهات الإرهابية الأولى للأجيال المتلاحقة، خلفًا عن سلف، ولكون الرسي المؤسس الأول، والذي تنتسب إليه أغلب الأسر الهاشمية اليمنية فإنه يكادُ يكون مقدسًا عند أتباعه، وتمثلُ تعاليمُه شعرًا ونثرًا المرجعيّة الأساسيّة في الثقافة الدينية والسياسية الإمامية، ووفقا لما أورده القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي، مُستقرئا مَسيرة الزَّيْدِيَّة في اليَمن: ".. ولكن جاءت فرقةٌ من فُقهاء الزَّيْدِيَّةِ قلدوا غيرَهم، فجَمدوا على المذهب الهَادوي، وجَعلوه حَرمًا مُقدسًا، حتى قَال الإمَامُ عبدالله بن حمزة: إنا نهابُ نُصُوصَ يحيى ـ أي الإمَام الهَادي ـ كما نهابُ نصُوصَ القُرآن..". يقول الرسي في واحدة من هذه القصائد:
الطعنُ أحلى عندنا من سلوة
كر الجوامس حين طال ظماها
والروس تُحصد بالسيوف ألذ من
بيضاء ناعمة تجر رداها
والسائلات من الدماء فواغرا
عظمت فقسط الزيت لا يملاها
أشهى وأعجب من صبوح مدامة
في القلب يظهر غيَّها ورداها
وجماجم القتلى لأرجل خيلنا
في الكر تقرع فوقها وتطاها
والرُّمح في كفي كأن سنانه
نجم المجرة لاح في أعلاها.
وبقليلٍ من التأملِ في بعضِ مفرداتِ هذا النص، نكتشفُ مدى السادية النفسية التي تعيشُها نفسية هذا الرجل، من خلال بعض الألفاظ ذات المنزع السادي: الطعن، الروس تحصد، السائلات من الدماء، جماجم القتلى.. إلخ.
هذه المفردات في حد ذاتها تشكل لوحة إجرامية، عاشها وتخيلها الشاعر هنا في عقله الباطن، قبل أن يعبر عنها بالكلمات..! هذه صورة داعشية، قاعدية، نازية، بامتياز، عبر عنها وقد طبقها عمليا، كما يقول في قصيدة أخرى:
الخيلُ تشهد لي وكل مثقفٍ
بالصبر والإبــْلاء والإقـــدام
حقًا ويشهدُ ذو الفقار بأنني
أرويت حديــه بــدم طُغـــام.
كما يقول أيضا في قصيدة أخرى:
وقلتُ ألا احقنوا عني دماكم
وإلا تحقنوها لا أبالي
ولستُ بمسرع في ذاك حتى
إذا ما كفر كافِرُكم بدا لي
وحلَّت لي دماؤكم بحقٍ
وإخرابِ السَّوافل والعَوالي
وقطع الزرع واستوجبتموه
بما قد كان حالا بعد حال
أنا الموتُ الذي لا بد منه
على من رام خدعي واغتيالي.
انظر: سيرة الإمام الهادي يحيى بن الحسين، 307.
إلى جانب قصائد الرسي، أيضا قصيدة الشريف الرضي، والتي يتوارثها أجيالهم منذ القرن الرابع الهجري وإلى اليوم، وتمثل ــ فيما تمثل ــ واحدة من الموجهات الحربية التي ينشؤون عليها صغارهم، وكل فتى في هذه الجماعة هو رجل حرب، يتنشأ على الحقد والثأر والانتقام.
يقول الشريف الرضي "نقيب الطالبيين":
نَبّهتُهُمْ مِثْلَ عَوَالي الرّمَاحْ
إلى الوَغَى قَبلَ نُمُومِ الصّبَاحْ
فوارس نالوا المنى بالقنا
وصافحوا اعراضهم بالصفاح
لغارة سامع أنبائها
يغص منها بالزلال القراح
لَيسَ عَلى مُضْرِمِهَا سُبّةٌ
ولا على المجلب منها جناح
دُونَكُمُ، فابتَدِرُوا غُنمَهَا
دُمًى مُباحاتٍ، وَمَالٌ مُبَاحْ
فإننا في أرض أعدائنا
لا نَطَأُ العَذْرَاءَ إلاّ سَفَاحْ.
وفيها أيضا:
متى أرى الأرض وقد زلزلت
بعارض أغبر دامي النواح؟
متى أرى الناس وقد صبحوا
أوَائِلَ اليَوْمِ بِطَعْنٍ صُرَاحْ؟
يَلتَفِتُ الهَارِبُ في عِطْفِهِ
مروعًا يرقب وقع الجراح
متى أرى البيض وقد أمطرت
سَيلَ دَمٍ يَغلِبُ سَيلَ البِطاحْ؟
متى أرى البيضة مصدوعة
عن كل نشوان طويل المراح؟
إن في هذه القصيدة وحدها والتي نظمها نقيب الطالبيين ــ ومثلت مرجعية أدبية يتوارثها كلُّ طفل يولدُ من ذلك الزمن وإلى اليوم ــ من الحماس الثوري والاستثارة النفسية ما في كل قصائد الشعر من الحماس والاستثارة والتجييش كلها. ووفقا لابن الوردي: "حين يدافع الإنسان عن عقيدة من عقائده المذهبية يظن أنه إنما يريد بذلك وجه الله، أو حُب الحق والحقيقة، وما درى أنه بهذا يخدعُ نفسه.
إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها، وهو ولو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردد، ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة". انظر مهزلة العقل البشري، د. علي الوردي، دار كوفان للنشر، بيروت، لبنان، ط:2، 1994م، 41.
مضيفًا: "الواقع أن الإنسانَ يؤمنُ بعقيدته التي ورثها عن آبائه أولا، ثم يبدأ بالتفكير فيها أخيرا، وتفكيره يدور غالبا حول تأييد تلك العقيدة، ومن النادر أن تجدَ شخصًا بدّل عقيدته من جراء تفكيره المجرد". نفسه، 43. من هنا جاء التعدي وجاء إرهاب الغير، ووفقا لـ "ميلاني كلين" وهي من أبرز خلفاء فرويد في ميدان التحليل النفسي "أن العدوان يعتمل داخل الطفل من بداية الحياة". انظر: سيكولوجية العدوان، خليل قطب أبو قورة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1966م، 103.
لهذا لا تحتاج الثورات والانقلابات فيما بعد إلا أن تقدح الزناد فقط، فالبارود في الرأس، ولا يحتاج غير قدح الشرارة الأولى فقط. ومع تداخل الفرد مع الجماعة تتماهى أخلاقه داخلها، ويصبح وحشا كاسرا لا تعرفه، وقد تطبع بطباعها دون أن يدري، ومعلوم للجميع أن منطق الجماعة غير منطق الفرد. الجماعة جياشة عاطفية، مسرفة في عاطفتها وفي نزقها، وأقل تحريض من قائد القطيع يجعل الجماعة ترتكب أبشع الأعمال وأقساها. ومن يتأمل عنف الجماعات يجد جنونا من الوحشية غير متخيل. يقول جوستاف لوبون: "ومن أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها توحيد مشاعرهم وعزائمهم، ومن هذه الوحدة النفسية تكتسب الجماعات قوة عظيمة، والباعث على تكوين هذه الوحدة النفسية هو انتشار المشاعر والحركات والأعمال بين الجماعة بالعدوى على الخصوص".انظر: روح الثورات والثورة الفرنسية، جوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 72.
وهذا الإمَام أحمد بن سُليمان يسير على ذات النَّهج الذي اختطه الرسي في العنف والإرهاب تجاه اليمنيين؛ يقول شِعرا، مخاطبًا قومه:
فمتى كسوتُ السَّيفَ من هام العدى
علقًا كساني هيبة وجلالا
والسَّيفُ يُغني المفلسين ويشبع ال...
غرثى ويروي العاطشين زلالا
والسَّيف ينفع في الصَّديق وفي الذي
عادى ويترك عزمه منهالا
والسَّيف يُسمع من به صمم
إذا حكمته ويعلم الجهالا
والسَّيف ينفي لي تحكُّمه الأذى
ولعزة ويُحصل الأموالا
والسَّيف يجمع لي إذا حكمته
قوما يفيد معونة ونوالا
فلأؤيمن نساء قوم منهم
ولأوتمن من العدا أطفالا
ولأطعمنَّ الطيرَ من أجسَادهم
ولأكثرنَّ لجنْدي الأثقالا.
انظر: سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، سليمان بن يحي الثقفي، تحقيق: الدكتور عبدالغني محمد عبدالعاطي، عين للدراسات والبحوث الإنسانية، ط:1، 2002م، 84.
ويقرر السفاح عبدالله بن حمزة أن ديار المختلفين معهم فكريا هي دار حرب، يقول: "وأما حكايتنا عن القاسم والهادي والناصر بأن دار المجبرة والمشبهة دار حرب فهي من أجلى الحكايات، وأوضح الروايات، وذلك أن رواتها أئمة وعلماء لا يمكن حصرهم في رسالتنا هذه، وإنما نذكرهم جملة.. ولا يُعلم من هؤلاء خلاف على اختلاف أغراضهم، وهم ألوف لا ينحصر أعدادُها إلا لخالقها في جواز غزو المجبرة والمشبهة والباطنية، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، ويروون ذلك عن الأئمة الثلاثة، سلام الله عليهم أجمعين.. ويغزوهم ليلا ونهارا، ويختطفون ذراريهم سرا وجهارا، ويبيعونهم في أسواق المسلمين ظاهرا، ويشتريهم الصالحون، وما فعلوا ذلك إلا بفتوى علمائهم وأئمتهم وسائرهم..".
انظر: المجموع المنصوري، مجموع رسائل الإمام عبدالله بن حمزة، 108/1.
وردًا على حق القيل اليماني نشوان بن سعيد الحميري في ترشيح نفسه إماما للناس، يقول السفاح ابن حمزة:
أمَّا الذي عند جدودي فيه
فيقطعون لسْنه من فِيه
ويُيتّمون ضحــوة بنيــه
إذ صَار حق الغير يدعيْه
وعن المطرفية، قال فيهم بعد أن كفّرهم:
لستُ ابن حمزة إن تركتُ جماعة
متجمعــين بقــاعة للمنكر
ولأتركنهم كمثل عجائز
يبكــين حــول جنــــازة لم تقبر
ولأروين البيض من أعناقهم
وسنابك الخيل الجياد الضُّمّر.
وإلى جانب فتاوى يحيى حسين الرسي وأحمد بن سليمان وابن حمزة فهذا القاسم بن محمد ــ مؤسس الدولة القاسمية ــ قد كفَّر الصوفيَّةَ واسْتحلَّ دماءهم، كما ورد في واحدة من رسائله، يقول عنهم، محرضا النَّاس عليهم: ".. فالواجبُ على المُسلِميْن اسْتباحة دمائهم وأموالهم؛ لأنهم كُفار مُشركون؛ بل شركهم أعْظم وأكثر؛ لأن المشركين الذين كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يجاهدهم يقرون بالله ويجعلون له شُركاء وهِي الأصْنام، وهؤلاء لم يجعلوا إلههم إلا الحِسَان من النِّسَاء والمُردان..".
انظر: النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة، "مخطوط"، 31.
وكفَّر الإمَام المتوكل على الله إسماعيل الشَّافعيين، وعُموم أهل اليَمَنِ الأسْفَل، متهمًا إياهم بأنهم "مجبرة" و "مشبهة" وكفارُ تأويل، وأن حربَهم مشروعةٌ، فشنَّ حُروبًا مُتوالية على عدن ولحج وأبين وتعز وما جاورها بقبائل من الشمال، سَلبوا منهم أموالهم تحتَ حُجة الجِهَاد في سَبيل الله؛ لأن أرضَ هَؤلاء هِي أرضٌ "خراجيَّة" و"دارُ حرب" كل ما فيها غنائمُ للمسلمين، وللإمام حقُ التصرف فيها، وقَدْ قَال في ذلك: ".. إن مَذهَبَ أهْل العدل ـ زاد الله فيهم ـ أن المجبرةَ والمشبِّهةَ كفارٌ، وأن الكفارَ إذا استولوا على أرض ملكوها، ولو كانت من أراضي المسلمين وأهل العدل، وأنَّه يدخل في حكمهم من والاهم واعتزى إليه، ولو كان مُعتقده يخالف مُعتقدهم. وأن البلدَ الذي تظهر فيه كلمةُ الكفرِ تصيرُ جوار كفريَّة، ولو سَكنها من لا يعتقد الكفرَ ولا يقول بمقالة أهْله. هَذِه أصُولٌ معلومةٌ عندنا بأدلتها القطعيَّة، ومدونةٌ في كتب أئمتِنا، وسَلفِنا، رضوانُ الله علينا وعليهم، لا ينكرُ ذلك عنهم أحدٌ ممن له أدنى بصيرةٍ ومعرفةٍ بمصَنفاتهم".
انظر: تاريخ اليمن خلال القرن الحادي عشر الهجري، المسمى تاريخ طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى. تأليف عبدالإله بن علي الوزير. تحقيق: محمد عبدالرحيم جازم، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٥م. ص: ١٢١.
ولأنهم كفار من وجهة نظره، فقد أجاز قتل غيرهم ممن يعتبرهم من المسلمين "أهل مذهبه" في الحروب إذا كان القضاء على المجبرة والمشبهة لا يكون إلا بقتل من دونهم، يقول: ".. ومثل هذه الأفعال قد نص عليها العلماء في جواز قتل الترس الذي يترس به الكفار دوننا وهم من المسلمين، ويجعلونه دونهم ذريعة إلى استئصال أهل الإسلام. فإذا لم يمكن المسلمين دفع الكفار إلا بقتل المسلمين المتيرس بهم جاز، وإن كان قتل المسلم مفسدة لدفع مفسدة أعظم، وهو خشية استئصال أمة من المسلمين". انظر تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار، سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، المطهر بن محمد الجرموزي، دراسة وتحقيق: عبدالحكيم الهجري، مؤسسة الإمام زيد بن علي، ط:1، 2002م، ص: 526/ 1.
ومن الجدير ذكره هنا أن هذه الفتوى التي أصدرها المتوكل لم تكن وهو على ثغور الروم أو الفرس، إنما على تخوم يافع ودثينة الذين كفرهم أولا ثم غزاهم واستحل أموالهم. وفي عهده عمت المجاعات بلاد اليمن، كما هي الحال مع بقية الأئمة؛ إذ يذكر كاتب سيرته "أن الطعام صار كالفلفل، يكادُ أن يُباع بالميزان". سيرة المتوكل 527/1.ج
التعليقات 0:
تعليقك على المقال