الكاهن يحيى بن الحسين الرّسي المُلقَّب بـ "الهادي" " المجرم والمتورد الأول"
منتدى معد كرب القومي
من كتاب الكهنة للإكليلة لمياء الكندي
في نهاية القرن الثالث الهجري وبدايات العاشر الميلادي كانت اليمن على موعد مع التغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية والمذهبية التي رسمت تاريخ اليمن منذ ذلك العهد وحتى اليوم، فكان اليمنيون ضحية لخرافة الإمامة التي وفدت إليهم من خارج اليمن.
أظهر الهالك يحيى بن الحسين الذي لقب نفسه بـ الهادي نزعته لحكم اليمن والتسويق لنفسه كإمام شرعي يضع شروط الإمامة ويحتكرها في أبناء سلالته من أبناء الحسن والحسين دون غيرهم، وهو القائل: "لو كان معي ثلاثمائة وثلاثة عشر مؤمناً؛ لا بل خمسمائة لدُست بهم اليمن". ( )
تخلَّى الكاهن يحيى بن الحسين عن آماله بإقامة دولته في بلاد الآمال في فارس، وعاد إلى الحجاز ومن مسقط رأسه هناك في بلاد الرّس انطلقت مطامعه باتجاه اليمن التي زارها للمرة الأولى كمصلح ديني غلف نزعته السياسية في الحكم بدعاوى الزهد والتقوى، ورفع المظالم ومحاربة المنكرات، والجهاد في سبيل الله، ووفقاً لهذا النهج فقد دعا اليمنيين إلى طاعته والامتثال لأوامره التي يرى فيها امتثالاً وطاعة لله ورسوله، وجعل مقابل هذه الطاعة بأن تحدث عن نفسه بأنه ضامن لهم الجنة.( ).
اتبع الكاهن يحيى بن الحسين أساليب متنوعة من الترهيب والترغيب مع القبائل اليمنية كي تقبل بإمامته، وكان لا يتردد في إنزال أشد العقوبات ضد المناوئين له، فكان أول من سنَّ سياسة هدم منازل المخالفين وحرق مزارعهم، وردم آبارهم، والتمثيل بجثث المحاربين والمخالفين، ومن ذلك قيامه بتعليق جثامين معارضيه من أبناء القبائل في نجران - أثناء ثورتها عليه - منكسي الرؤوس على الأشجار أياماً عدَّة؛ حتى شكا الأهالي إليه رائحة النتن المنبعث من تلك الجثامين واستأذنوه في دفنها فأذن لهم.
كان الكاهن يحيى بن الحسين يحارب اليمنيين مستخدماً في حربه الحِيل والأكاذيب ذات التأثير النفسي؛ فقد ادَّعى أنه جاء إلى اليمن حاملاً سيف علي بن أبي طالب، المُسمَّى ذو الفقار، وهو السيف الذي لم يحمله غيره من أئمة آل البيت كما ادَّعى، وقد سخَّر هذا السيف - كما يزعم - لقتال الظالمين ومحاربة الفاسدين.( ). وكان الكاهن الرسي من القلائل في التاريخ الإسلامي الذين شرَّعوا قتل الأسرى، وجعل منها سنة يتبعها خلفاؤه من أدعياء الإمامة من السلالة الهاشمية في اليمن. ( ).
وقد سعى إلى إثارة الفتن وإشعال الحروب بين القبائل اليمنية، وعمل على تشويه سمعة خصومه السياسيين والمنافسين له، فوصفهم بالفسوق والفساد ومخالفة الدين بصورة لا تتفق مع الواقع، وتعكس حالة الخصومة بينه وبين اليمنيين المناهضين له، وادَّعى الهالك الرسي أنَّ حربه ضدهم وضد القبائل اليمنية إنما كانت بدافع محاربة الفساد ومنع شيوع الرذيلة وانتشارها بين القبائل، وهذا ما تحدث عنه المجرم يحيى عندما شنَّ هجومه على أتافث، في حربه مع إبراهيم بن الدَّعام 285هـ، فادعى أنَّ أهل بيت زود جاءوه شاكين من الدَّعام بن أرحب وأصحابه أنهم يشربون الخمور، ويرتكبون الفجور ( ). وهو ما تعاهد عليه كهنة الخرافة في تشويه خصومهم واستفرادهم في كتابة التاريخ.
ولم يكن الدَّعام وجنوده هم الوحيدون من أطلق الرسي حولهم هذه الإشاعات والأكاذيب المغرضة؛ فقد واجه علي بن الفضل أثناء حروبه معه ما هو أكبر من ذلك؛ إذ تم تصويره وجماعته بأنهم مجموعة من الشواذ، واتهمهم بالكفر والرِّدة والتمرد على الشريعة الإسلامية والضوابط الاجتماعية، وتحت هذه الحجج والإشاعات الكاذبة تمكن الكاهن الرّسي من حشد القبائل لقتال ابن الفضل وغيره، ومنها نسبة إحدى القصائد إلى علي بن الفضل وهي قصيدة أشيع أن ابن الفضل قالها من على منبر جامع صنعاء وقيل في أحد مساجد الجند، توضح القصيدة تباهي ابن الفضل بردته - وكفره بالتشريعات الإسلامية وادعائه النبوة، تشويهاً لدوره في حرب الكاهن الرسي وأبنائه واستغلال هذه القصيدة لإثارة عموم اليمنيين ضده وهذا مطلع القصيدة:
خُذِي الدُّفَّ يا هذه واضرِبي وغنِّي هَزَاركِ ثم اطرَبِي
تولَّى نبيُّ بني هاشمٍ وجاء نبيُّ بني يَعْرُبِ
أَحَلَّ البناتِ مع الأمهات ومِن فضله زاد حِلَّ الصَّبي
لكلِّ نبيٍّ مضى شِرْعةٌ وهذي شريعةُ هذا النَّبِي
لقد حَطَّ عنَّا فروضَ الصلاة وحَطَّ الصيامَ ولم يُتعِبِ
إذا الناسُ صَلَّوا فلا تنهضي وإن صُوِّمُوا فكُلي واشربي
ولا تمنعي نفسَكِ المُعْرسين مِنَ الأقربين أو الأجنبي
فلِمْ ذا حَللتِ لهذا الغريب وصِرْتِ مُحَرَمَة للأبِ؟!
أَليس الغِراسُ لمَنْ رَبَّه وسَقَّاه في الزمنِ المجدِبِ؟!
وما الخمرُ إلاَّ كماءِ السماء حَلالٌ فقُدِّستِ من مَذهبِ ( ).
وهي قصيدة طويلة تم نظمها ونشرها وترويجها بين العامة والخاصة باسم ابن الفضل من أجل التحريض ضده، والحقيقة أن ما نسب لابن الفضل من ادعاء النبوة أو انتهاج الكفر وممارسة المحرمات، إنما هو زيف وافتراء إذ من غير المعقول أن يجاهر ابن الفضل أو غيره بهذه الأفكار ويدعي نبوته ويعطل أحكام الدين فيما يظل حوله مجاميع كبيرة من اليمنيين المناصرين له، خاصة وقد عرف عن اليمنيين أنهم أشد غيرة على دينهم وأكثر حرصا وحفاظا وتمسكا بعاداتهم وتقاليدهم وانتمائهم للدين وتعاليمه، فقد كانت هذه القصيدة إحدى أهم الأسلحة الدعائية التي استخدمها الرسي في تشويه ابن الفضل، وكذلك فعل الرسي ،وسلالته من بعده، مع جميع أعدائهم ومخالفيهم.
وبعد سيطرة يحيى بن الحسين على صنعاء سنة 288هـ قام بتعيين حاشيته الخاصة من أبنائه وإخوته وأبنائهم وأبناء عمومته العلويين، مستعينًا بتثبيت أركان حكمه بالجُنْد الذين استقدمهم معه من طبرستان والذين عرفوا باسم الطبريين، وهم الذين شكَّل منهم الكاهن يحيى بن الحسين جنده الخاص الحامي لدولته والمسيَّر للحروب فيها( ) ..
فكان الطبريون (الفُرْس) مسلطين بسيوفهم وبما أوتوا من قوة على رقاب القبائل اليمنية، وكانوا يد المجرم يحيى بن الحسين الضاربة في البطش والسلب والنهب والتخريب وإحراق المزارع، وهدم البيوت، وسجن المنافسين، وقتل المخالفين، وإعدام الأسرى.
وعلى الرغم من دخول المجرم الهادي إلى صنعاء وسيطرته عليها، إلا أنَّ المعارك والحروب بينه وبين القبائل اليمينة التي لم تستسلم له ظلَّت مستعرة، ونذكر منها حروبه مع إبراهيم بن الدَّعام وابنه أرحب، وآل طريف وآل يعفر، وحربه مع أهالي البون، وريدة، وبيت زود، ودرب بني زياد، وبني صريم، وخولان وبني زيد، وصعصعة وغيرها، فلم تخمد ثورة صنعاء ومقاومتها للمجرم الهادي وجنوده المستأجرين بمجرد سيطرته تلك؛ فطلب النجدة من الحجاز للتغلب على مقاومة اليمنيين له فجاءته النجدة من أخيه عبدالله بن الحسين بمجموعة كبيرة من الجنود الطبريين( ). وكانت هذه السياسة تعبر عن العلاقة المبكرة بين كهنة البيت الهاشمي والفرس منذ وقت مبكر.
وفي معركة في منطقة ظبر وقع قتال بين أهالي صنعاء وقبائلها وبين المجرم الهادي وأنصاره، وقُتل في هذه المعركة رجل الهادي الأول في صنعاء وقائد جيوشه المعروف بـ أبي العتاهية، وهو أول القادة اليمنيين الذين قاموا بتسليم صنعاء للكاهن الهادي ومراسلته بهذا الخصوص سنة 288هـ، وحول ذلك شاعت مقولة إبراهيم بن الدعام له "لا ينبغي أن تعطي هذا العلويَّ ملكاً قد قاتلت عليه آل يعفر وغيرهم".
وفي العام 289هـ خرج المجرم الهادي لمعاقبة الثائرين عليه في منطقة ضبوة بعد أن وصله المدد من الحجاز، فهاجمهم وأخذ أموالهم، وما إن سمع أحرار اليمن بذلك حتى خرج فوج منهم من "بيت بوس" فالتقوا برجال الهادي في ضبوة فقاتلوهم أشد القتال حتى سقط الكاهن الرسي جريحاً، وشاع مقتله بين أتباعه، وأُبيد جيش الطبريين عن بكرة أبيه، وتمكن الكاهن الهادي من لملمة ما تبقى من صفوف جيشه والرجوع إلى صنعاء ( ).
وبعد هذه الهزيمة التي مني بها الرسي وجنوده، أُجبر على الخروج من صنعاء عائدا إلى صعدة سنة 289هـ، ودانت صنعاء للقيل اليماني أسعد بن أبي يعفر، حيث دخلها مولاهم إبراهيم بن خلف بعد أن أحدث فيها الرّسي الدمار والخراب جراء الحروب التي أشعلها فيها، وتسبب بسجن وتعذيب أمراء وسادة قبائل اليمن من آل يعفر، وآل طريف، وقطع أرزاق الناس، وإفقارهم ومعاناتهم.
وأثناء محاولة الهالك الرّسي استعادة ملكه في صنعاء وقعت بينه وبين آل طريف حربان عظيمتان أُسر فيها ولده وقائد جيوشه محمد بن الهادي، ودخل به المنتصرون من آل طريف إلى صنعاء على ظهر بغلة فطافوا به الأسواق.
ولم تقف محاولات الهادي للاستيلاء على صنعاء عند هذا الحد؛ بل مضى في محاولاته لاحقاً.
في بغداد توفي الخليفة العباسي المعتضد سنة 289هـ، وولي ولده المكتفي الذي قام بتجديد ولاية عثمان بن أبي الخير وأسعد بن يعفر على اليمن، واستمر حكم أسعد بن يعفر على صنعاء إلى 293هـ، أي إلى حين دخلها علي بن الفضل، وكان الهالك الهادي قد سعى لتأسيس دولته خارج إطار حكم الخلافة.
خاض علي بن الفضل حروباً عديدة ضد الكاهن الهادي، بعد انفصاله عن الدولة الفاطمية وقيامه بحكم اليمن كيمني، وقد كان دخوله صنعاء سبباً في رجوع الهادي إليها، متحالفاً مع العديد من القبائل.
وبقيت الحرب سجالًا بين الرسي وابن الفضل إلى أن دخل الرسي صنعاء للمرة الثانية في 294هـ، غير أن بقاءه فيها لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما تعاظم دور القرامطة، فشملت سيطرتهم أغلب مناطق اليمن.
كما كان للحروب التي وجهها أسعد بن يعفر ضد الرسي وجنوده أثرها في إضعاف قوة الكاهن الرسي فخرج ابنه المرتضى بن يحيى بن الحسين من صنعاء والتقاه في ورور ( )، ومنها قررا العودة إلى صعدة، وهناك توفي الرسي سنة 298هـ ( ).
لم يمثل نفوق الكاهن يحيى بن الحسين نهاية للأطماع الهاشمية العلويَّة في حكم اليمن؛ إذ كان الكاهن قد أسس مبدأ الحكم السلالي الذي كان ولا يزال مصدر الحروب والشرور والظلام في اليمن إلى اليوم ( ).
ومن أبرز ملامح حكم هذا الكاهن انتشار الفقر والمجاعات في البلاد، ووصف المؤرخون تلك الحقبة بأنها أقسى فترات التاريخ اليمني بؤساً وفقراً؛ إذ اشتد القحط في ربوع اليمن، حتى وصل الحال بالناس سنة 290هـ أن أكل بعضهم بعضاً، ومات خلق كثير، وخربت قرى كثيرة، وبلغ الحال بإحدى القبائل اليمنية من آل أبي جيش أن فنوا في قريتهم، بعد أن نفدت أموالهم وبذلوا وجوههم للمسألة؛ فقعدوا في بيوتهم وأغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم حتى ماتوا فيها، ولم يتبق منهم غير طفلة واحدة. هذا هو حال اليمنيين في عهد الكهنة المتوردين الذين جعلوا اليمن ساحة لمؤامراتهم وهدفاً لنهبهم ولأطماعهم، واستمرت هذه المجاعات إلى ما بعد نفوق الكاهن يحيى بن الحسين وأثناء حكم سلالته من بعده( ). .
أبرز أقوال وفتاوى الكاهن يحيى بن الحسين الرسي.
قول الكاهن يحيى بن الحسين حول عزمه الخروج إلى اليمن: "كنت قد انثنيت عن الخروج إلى اليمن، وعزمت على ترك رسل أهل اليمن وكان ذلك بداعي من شره أهل اليمن، وقلة رغبتهم في الحق، فكنت عازما على التخلف، حتى إذا كان قبل خروجي بليلة رأيت رسول الله في المنام، وهو يقول لي، يا يحيى مالك مستثقلا عن الخروج انهض فمرهم فلينقلوا ما على الأرض من هذه الأوساخ، فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم يرد بذلك غير المعاصي على الأرض من العباد فضمنت له النهوض فنهضت".( ).
وقال الكاهن يحيى بن الحسين مخاطبا اليمنيين: "والله لئن أطعتموني ما فقدتم من رسول الله إلا شخصه إن شاء الله".
وكان الكاهن يحيى بن الحسين طالبا للملك وساعيا إليه؛ فبعد فشل رحلته في بلاد الآمال في طبرستان وسعيه إلى حكم اليمن التي كان يتخوف عدم تحقيق غايته فيها، فقال في ذلك: "والله لئن لم يستوِ لي في اليمن الأمر لا رجعت إلى أهلي، أو أضرب الشرق والغرب حتى أقيم لله الحجة".
وفي سبيل التحشيد لمعركته لإخضاع اليمنيين، قال: "والله لا أعلم اليوم راية مثل راية بدر إلا رايتنا هذه، ولا عصابة اجتمعت أفضل من عصابتنا هذه بعد من كان من قبلنا، ثم قال وعنده الناس: ما أشتفي ولا يشتفي قلبي حتى أطأ جيف المخالفين للحق بفرسي".( ).
ومن أقاويله مخاطبا أتباعه من أبناء القبائل: "اضمنوا لي أن تصلحوا لي سرائركم، وإذا أمرتكم بشيء ائتمرتم، وبإذن والله أوقفكم على المحجة البيضاء وأضمن لكم الجنة". ( ).
وفي مجموع رسائله: "حكمنا بالهلكة على المخالفين دعوتنا وبالنجاة للمسلمين لنا الساعين إلى طاعتنا حتى سمينا من قتله الظالمون منا شهيدا وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهداء، وسمينا نحن من قتلنا من الظلمة كافرا معتديا وحكمنا عليه باستحقاق الوعيد من الله الأعلى وضرب أعناق المحاربين لنا وأخذ أموالهم واستباحة ديارهم" ( ).
وحين سئل عن الذين عناهم الله بقوله (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) وما إذا كان المقصود بهم اليهود والنصارى، رد في مجموع الرسائل: "غيرهم أولى بهذه الآية منهم؛ من هو أقرب إلى الإسلام، من أولئك الكفرة الطغاة {والذين يلونكم} فهم الذين بينكم ومعكم ممن يدعي الإسلام… هؤلاء أضر بالإسلام وأهله وأنكى ومن كان كذلك من العباد فهو أولى بالجهاد لضرره على المسلمين والعباد". ( ).
التعليقات 0:
تعليقك على المقال