في حضرة الذكرى: الفضول.. الشاعر الذي غنى اليمن وأوجع الطغاة
فتحي أبو النصر

في مثل هذا اليوم، لا نعود فقط إلى رحيل شاعر، بل نرتحل معه إلى جوهر اليمن وروحها المعذبة، إلى قناديل الأحلام التي أشعلها في وجه الإمامة، إلى وجدان العاشق المكسور، والمناضل الصلب، والكاتب الساخر، والمثقف الذي اختار أن يكون صوت الذين لا صوت لهم.
نُحيي اليوم الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل الشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان الفضول، الإنسان الذي اختزل في سيرته القصيرة، وفي قلمه الطويل، تاريخ اليمن الحديث بألمه، وجماله، وانكساراته، وبريقه الموعود.
والحق يقال إن الفضول لم يكن شاعرا تقليديا، بل كان حالة سياسية وثقافية فارقة.
فمنذ أن نضج وعيه في ظلال نكبة 1948 وارتوى من مرارة فقد والده الشهيد عبد الوهاب نعمان، انتمى عبد الله للناس، للبسطاء، للثوار، للحالمين بوطن ليس فيه سادة وعبيد، إمام ورعايا، بل جمهورية تُبنى على الكرامة والحق والحرية.
ومن قريته "ذبحان" بالحجرية إلى أزقة عدن، ومن زنازين "القلعة" في صنعاء إلى بيروت الموسيقى، ظل الفضول وفيا لقضية اليمن، متجسدا في قصيدة، أو مقالة، أو نشيد يُهتف به في الساحات.
سياسيا، لم يكن الفضول يطمح في سلطة أو يسعى إلى منصب، رغم أنه تقلد مواقع حكومية، أبرزها وزارة الإعلام بعد الثورة.
لكنه ظل في العمق "شاعر جمهورية"، لا مجرد موظف فيها. سلاحه الكلمة، وميدانه العقول والقلوب.
تذكيرا أسس صحيفة "الفضول" في عدن لتكون منبرا لليمنيين المقهورين، ومرآة تعكس هشاشة الحكم المتوكلي، وتفضح سذاجة الكهنوت، وتنزع عنهم هالة القداسة المزعومة.
أي أنه اختار أن يُقاتل بالتهكم لا بالرصاص، بالكلمة التي تشظي الغطرسة وتنهك الاستبداد.
وفي مرحلة ما بعد النكسة، عندما عم الصمت وكثرت الانتهازية، عاد الفضول إلى الشعر، لكن هذه المرة عبر الأغنية، فوجد في صوت أيوب طارش التجلي الأكمل لمعاناة الإنسان اليمني، وعشقه، وثورته، وتوقه العميق للانعتاق
ومن قصائد "رح لك بعيد" إلى "وادي الضباب" إلى النشيد الوطني نفسه، كانت كلماته صرخات شجن ومقاومة وهُوية.
على أنه لم يكتب الحب كترف، بل كمعاناة، وكتب الوطن كحبيبة مصلوبة على أمل مؤجل.
ولقد كانت أغنياته تمارس فعلا سياسيا دون شعارية، وتغرس وعيا دون خطابية.
ولعل قصيدته الخالدة في النشيد الوطني:
"عشتُ إيماني وحبي أممياً.. ومسيري فوق دربي عربياً.. وسيبقى نبض قلبي يمنياً"
تلخص عقيدته السياسية العميقة .
إيمان بالإنسان، انتماء للأمة، وولاء لا يُفاوض لليمن، دون أن يُرهَن هذا الولاء لحزب أو طائفة أو أيديولوجيا.
بل لقد أراد أن يُغني الناس وهُم يسيرون إلى المستقبل، لا أن يُطربهم وهم يتراجعون إلى الكهوف.
بمعنى أدق لم يكن "الفضول" اسما مستعارا، بل هوية نضالية تبناها الشاعر ليصير هو وكتاباته شيئا واحدا.
صوته في مقالات "يمني بلا مأوى" التي نشرتها "فتاة الجزيرة"، هو ذاته الذي كان يُدوي على لسان البحارة في المرافئ، والمزارعين في الحقول، والجنود في المتارس.
أما شعره لا يُدرس فقط، بل يُغنى، يُهمَس، يُقاتَل به.
طبعا عين مستشارا للحكومة لشؤون الوحدة طوال فترة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني والرئيس إبراهيم الحمدي والرئيس أحمد حسين الغشمي والرئيس علي عبد الله صالح وكانت آخر وظيفة حكومية له.
وهو ما جعل منه ليس مجرد شاعر كبير، بل مؤسسة شعورية تتجاوز الفرد لتلامس روح أمة كاملة.
وكان اختيار النشيد نشيدا وطنيا لجنوب الوطن قبل الوحدة، بناء على اتفاق في الكويت بين الأخ الرئيس علي عبد الله صالح والأخ الرئيس عبد الفتاح اسماعيل، رحمهما الله، في العام 1979، إذ اتفق الرئيسان أن يكون النشيد هو النشيد الوطني للشطرين، ولليمن الموحد.
وذلك الاتفاق هو أساس إقرار "رددي أيتها الدنيا نشيدي" كنشيد وطني لليمن الموحد.
بعد ذلك، قلده الأخ علي ناصر محمد، رئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى، الشطر الجنوبي للوطن حينها وسام الأداب والفنون. في 10 سبتمبر 1980.
وقلده الأخ الرئيس علي عبد الله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية، الشطر الشمالي للوطن حينها، وسام الفنون في 23 يونيو 1982
واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود على رحيله، لا تزال اليمن تنزف وتُكابد، لكن أغنيات الفضول باقية، تؤنس الوحشة، وتُعيد تعريف الهوية في لحظة اختطافها.
وحين يُبدَّل النشيد، أو تُحرَّف كلماته، تتصاعد روحه من أبياته، صارخةً: اليمن ليست للبيع، لا للخلافة، ولا للوصاية. إنها وطن الشهداء، لا الإمامة، وطن الحب لا الكراهية، وطن القصيدة لا الخرافة.
وفي ذكراه، لا نرثيه، بل نستعيده.
نعم...
نستعيد "الفضول" الفارس الذي لم يتراجع، والإنسان الذي أحب حد الألم، والكاتب الذي جعل من قلمه شوكة في حلق الاستبداد.
كذلك نحييه، كما ينبغي لليمن أن تُحيي رموزها الكبار: بلا صخب، بلا نسيان، بل بوعي أن الكلمة وحدها من تصنع المعنى حين يغيب كل شيء.
لذلك:
سلامٌ عليك يا أبانا ، في ذكراك الثالثة والأربعين، وسلامٌ على اليمن الذي أحببت، وعلى القصيدة التي بها قاومت، وبها سنقاوم.!
و:
ليس منا أبداً من مزقا..ليس منا أبداً من فرقا
ليس منا من يسكب النار في أزهارنا كي تحرقا"
...
الصورة وهو يلقي قصيدة يوم تكريمه من قبل الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح رحمة الله عليه ويظهر الشاعر الكبير عبد الله البردوني والشاعر الكبير محمد سعيد جرادة والشاعر الكبير د عبد العزيز المقالح.. رحمة بلا حدود
التعليقات 0:
تعليقك على المقال